الحقيقة _أنواكشوط _أجرت وكالة الأخبار مقابلة مع رئيس مركز الأبحاث والدراسات العليا في ابروكسل د.بدي ولد أبنو تناولت أبرز مواضيع الساحة السياسية في موريتانيا، وعلى رأسها جدل المأمورية الثالثة وانتخابات سبتمبر.
كما تناولت المقابلة اتهامات الرئيس محمد ولد عبد العزيز لبعض القوى السياسية بالتطرف، وإغلاق مركز تكوين العلماء الذي يرأسه العلامة الشيخ محمد ولد الددو.
وقال ولد أبنو إن التجربة الديمقراطية في موريتانيا "تم تفريغها من جوهرها لتختصر في مسلسل اقتراعي نتيجته الأبرز هي تكريس المجتمع التقليدي المؤدول أو الذي يُعتقد وهماً أنه تقليدي".
كما اعتبر أن المواطنة هي ضحية عملية التحديث التي يرى أن الديمقراطية تعرضت لها في موريتانيا، لافتًا إلى أن لا تحديث ولا مساواة بدون مواطنة.
وإليكم نص المقابلة:
الأخبار: لنبدأ معكم بسؤال شخصي، فقبل أسابيع أكدتْ مصادر نيتكم الترشح للانتخابات الرئاسية في 2019، هل أنتم ماضون في قرار الترشح؟
ـ د. بدي ابنو : هذا السؤال طُرِحَ علي كثيراً في الأسابيع الماضية وقد تفاديتُ الردّ عليه لعدّة أسباب سأعود إليها إن شاء الله لا حقاً .
وقد نبهتْني السياقاتُ التي وردني فيها غالباً هذا السؤال، خلال الشهرين الماضيين أو ربما أكثر قليلاً، إلى الحاجة إلى أن أوضّح عدّة خلفيات، أو ما يبدو لي خلفيات، سيلزم في نظري التوقفُ عندها عند الحديث في موضوع "كالرئاسيات" وبشكل أعمّ ما يطلق عليه الإعلام اسم التجربة الديمقراطية الموريتانية. وأعتزم إن شاء الله أنْ أنشر تلك التوضيحات قريبا، ربما في شهر نوفمبر.
الأخبار: في الظرف السياسي الحالي بموريتانيا، أين يضع د.بدي أبنو نفسه؟ في صف المعارضة أم الموالاة؟
ـ د. بدي ابنو :
لي إجابة وملاحظتان بهذا الخصوص.
من منظور المعايير الحزبية إن جاز التعبير أعتقد أنكم تعرفون أني حالياً لستُ منخرطا في المعادلات التنظيمية القائمة. طبعاً أتحدّث عن الاستقلالية التنظيمية، وإلا فمِنْ منظور التعبير عن الآراء في المجال العام أو التواصل مع هذا الطرف أو ذلك فلا يوجد معنى لصفة مستقل. مع أنه فيما يتعلق بالتعبير عن رأيي في القضايا الموريتانية حاولتُ في العشر سنوات الأخيرة أنْ لا أقوم بذلك إلا قليلا حين يكون الأمر فيما أعتقد ضروريا وحين أمتلك معلومات يوثق بها، والنقطة الأخيرة عقبة كبيرة، فامتلاك معلومات مؤكدّة أو شبه مؤكدّة أمرٌ صعبُ الحصول في السياق الموريتاني. تبدو الآراء والمواقف في نواكشوط وكأنها مؤسسةٌ لدى أغلب الأطراف بما فيها تلك التي يُفتَرض أنها حاكمة على الإشاعة أو على الوهم والتقدير الاعتباطي.
بعبارة أكثر اختصاراً، ليست لي أي علاقة تنظيمية بالسياسة الموريتانية منذ تجميد تجمع المعارضة الموريتانية في المنفى سنة 2007.
أمّا الملاحظتان فأولاهما هي أن كلمة الموالاة في دولة يُفترض أنها ديمقراطية كلمة مخيفة واستخدامها الكثيف محلّيا يًترجِم إلى أي درجة ما يزال النموذج الأتوقراطي، في حيثياته التقليدية والحديثة معا، مهيمنا في الذهنية الجمعية.
الأمر أن نحلّل المؤسسة السلطوية المحلية بشكل عامّ. وحين نقوم بذلك ولو أولياً ندركُ بسهولة أن السلطة خارج السلطة، أن معظم المحسوبين على السلطة هم فقط مستفيدون هامشيون منها، هم فقط أصحاب امتيازات شخصية على هامش الحسابات المركزية. ليسَ بالضرورة أن هؤلاء يعون هم أنفسهم هذا كلّيا. في بلد مثل موريتانيا ولأسباب كثيرة معروفة وشبه معروفة يلعب في المرحلة المعاصرة الوهمُ دورا مفرطا في إضفاء الصفات. ومن هنا تجدُ كلمات مثل "الموالاة" و "الأغلبية" وحتى "المعارضة" دلالتها في معادلات الوهم القائمة. "الموالاة" مثلا ليست فقط "موالاة" لا تعرف ما ذا توالي ومن توالي بل لا يهما ذلك. إنها مولاة سلطانية. توالي الوضع القائم أياً يكن ولا تعرف له بديلا بل لا تريد له بديلا. شعارها هو الإصرار باستماتة على بقاء الوضع القائم قائما. تريد الحاكم أن يظلَّ حاكما ما دام حاكما. وإذا حكم غيره تَـلعَن السابق لأنه لم يعد رمزَ الوضع القائم وهي مكلّفة فقط في تصورها بتكريس الوضع القائم والمطالبة بتأبيده. في لاوعيها العميق المهمّ هو صفة الحاكم أيا يكن، المهمّ هو سلطان الوقت. قبل أن يرحلَ الحاكم عليها في تصورها أن تُصرّ باستماتة على أن لا يرحل. وبعد أن يرحل تصرّ باستماتة أشدّ أنه كان عليه أن يرحل. إنها في الخلاصة مع الوضع القائم ما دام قائما ومع الوضع الذي يقوم حين يقوم. هذه الجبرية المحدثة هي الموالاة وهي الأغلبية وهي الحاشية والحواشي، وهي التي ترفع اللافتات باسم هذه المجموعة القبلية والعرقية أو تلك في كل شبر من هذه الأرض، إنّها هي العقل السياسي السائد في موريتانياً حالياً ومنذ عقود، لأسباب طبعاً متضافرة اجتماعية اقتصادية إلخ. وهي للأسف تجعلُ منذ عقود الجزءَ الأكبر من أطنان الكلام الذي يُقدّم باعتباره خطاباً عموميا تجعله مزيجاً من فلكلور البيعات السلطانية في العهود السحيقة ومن الدعاية الغبلزية أو الأدوربرنية الحديثة. الذي يبايع يعلنُ عن مكانته في مسلسل الهرمية المحلية المُحْدَثة بشكل مستقل عن موقفه من الحاكم ومن الحكم. هو أصلا لا موقف له منهما. وفاعليته تجد معناها ومبررها في سلم "قيمي" آخر.
الملاحظة الثانية هي أن جزءا مما تسميه الصحافة المحلية المعارضة هو عبارة عن الضواحي القريبة أو الأقرب للسلطة، هو نوع من نوادي قاعة الانتظار، من احتياط "الموالاة" أو "فائضها". أي أنه جزء مما يمكن أنْ نسميه المعارضة بإذن الحاكم، المعارضة التي تبقى معارضة طالما لمْ يستدعها الحاكم، إنها الفائض الذي لا يحتاجه الحاكم مرحلياً. أو لا يحتاجه في الصفّ الأول من الموالاة.
المعارضة التاريخية أو العضوية بقيتْ لأسباب متراكمة على الهامش. وامتلأت الساحة من معارضة قاعة الانتظار، أي من موالاة الدرجة الثانية. وهذه نتيجة مسلسل طويل يمكن التأريخ له ببداية التسعينات بل قبلها، وهو ما حاولتُ أن أعرضه وأن أحلله في كتابات سابقة.
عكساً لما يمكن أنْ يُعتَــقد من أن "السلطة" هزمتْ "المعارضة" حين صاغت معارضةً أكثر حضوراً في الواجهة على المقاس الذي تريد فإنه نجاح مفخّخ. هذا التحجيم صحيحٌ فقط بالنسبة للمعارضة المرئية أو شبه المنظمة. ولكنّ المعارضة كما تعرفون إذا تقلّصتْ في "الأعيان" تضخَّمتْ في "الأذهان"، إذا تقلصتْ في جانبها المنظّم أصبحتْ الانفجارات الفجائية للأغلبية الصامتة أخطر. أعرف أن الفئات المتنفذة تنفي وجود أغلبية صامتة. وهذا نفي شائع في أماكن كثيرة من العالم شهِدتْ رغم هذا النفي أو رغم الاعتقاد السائد انفجارات شعبية كبيرة. طبعاً قبْلَ أن تنفجر الأوضاع تظلّ دائما إجابات الصوت السائد هي من نوع : بلدنا يختلف، مجتمعنا يختلف. وبالتأكيد كلُّ بلدٍ يختلف عن غيره وكل مجتمعٍ يختلف عن غيره. ولكنّه من المؤكد أيضا أنّ هذه الاختلافات لا يمكن أنْ تكون لصالح بلدٍ نعرف جميعا أنه من أكثر بلدان العالم فقرا ومنْ أشدّها هشاشة ًوبدائيةً على مستوى البنى الدولتية.
هنالك تناقضات عميقة متراكمة تزداد بسرعة حدّةً وقدرةً على التعبير عن نفسها. ولا تملك المعادلات الموريتانية القائمة حالياً قدرة جدّية لا على حلّها ولا حتى على التخفيف من تفاقمها المتسارع. الدولة الموريتانية الموروثة عن الاستعمار قامت أصلا على تناقضات أكبر منها. أكبر من قدرات طبقتها السياسية الموجودة أيا يكن تموقع مكونات هذه الطبقة سابقاً أو حالياً. يكفي أنْ نتذكّر فقط التضافر السلبي منذ البداية للسياقات، أنْ نتذكر فقط الجانب الاقتصادي وأزمة شحّ الموارد الطبيعية والبشرية والصراع على التحكم على "المقاعد" القليلة المتوفرة وتوظيف الجوانب الاجتماعية الثقافية والتربوية وغياب سياسة ثقافية الخ.
التناقضات مرتبطة بالطريقة التي صيغتْ بها الدولة وِلاَدياً، بنيةً وحدوداً إلخ، في علاقاتها مع الوصاية الأجنبية ومع إرث ما قبل الدولة. يتعلّقُ الأمر بشكلٍ خاصّ برباعية التعايش العرقي والمشكلة الثقافية وقضية التابعية وقضية العدالة الاجتماعية. وهذه التناقضات تزداد وتتراكم وتتفاقم دون أن تجد سوى من يرغب في الاستثمار السلبي لهذا الجانب أو ذلك منها لغايات تعبوية مرحلية. الطبقة السياسية المحلية تعاني أزمة عميقة وبالغة التعقيد. وجزء معتبر من مكوناتها لا يريد أن يرى الواقع كما هو.
هنالك بداهةً قدرات جدّية موجودة ولكن السياق أبقى هذه القدرات موجودة مع وقف التنفيذ كما أبقى مسار التحديث بشكل عام موجودا مع وقف التنفيذ.
الأخبار: كيف تنظرون إلى مساعي المعارضة نحو البحث عن مرشح توافقي في الانتخابات الرئاسية؟
د. بدي ابنو : أتمنى ذلك. يلزم أولا تحديد من نعني بالمعارضة إيجاباً وليس فقط في مواجهة الآخر الحاكم. التجارب العالمية تثبتُ خطرَ هذه التعريفات السلبية التي تصبح بها المعارضة هي فقط كل المجموعات التي لديها خطاب ينتقد الحاكم أيا تكن جدّية ووجاهة ذلك الانتقاد. يلزم إذا تحديد الإحداثيات البديلة للإحداثيات القائمة. إذا نظرْنا في كثير من الثورات سنجدها بدأت تأكل أبناءها في اللحظة التي بدأتْ تدرك أن "ضدّ" لا تكفي وأنه يلزم أن تحدّد إحداثياتها المشتركة أي تحدّد هي مع ماذا، ما هو مشتركها البديل.
بالمناسبة وكما تعرفون حاولت شخصيا سنة 2015 أن أقوم بمبادرة في هذا الباب تجاه عدّة أطراف لاستثمار الثلاث سنوات التي كانت تفصل عن الاستحقاقات فيما اعتقدتُ أنه يمكن أنْ يؤسّس ولو نواة متواضة لاستراتيجية لعبور هذه المرحلة. وقد حصلتْ لدي مؤشرات إضافية على أني بعيدٌ عن الواقعية في السياق الموريتاني وأن التحضير لمدة سنوات حتى لو كانت فقط ثلاث أي لا شيء تقريبا بالمقارنة مع يقتضيه التخطيط الاستشرافي الجدّي أمرٌ لا معنى له محليا لدى أغلبية الفاعلين. بعبارة أخرى الزمن السياسي الموريتاني زمن "فترة" بطيء ومحدود الأفق رغم ما قدْ يحمله ذلك من مفارقة.
نعم موريتانيا تحتاج إلى اغتنام كلّ فرصة تغيير. فهي لا يمكن أن تستمر على نفس الوتيرة السياسية لفترة طويلة.
وتسييرها وفق المسطرة الموروثة حتى في أحسن صور تلك المسطرة أي الطموح فقط إلى ترقيع الموجود بمنطق الموجود لايبدو لي أمرا واقعيا في السنوات القليلة القادمة. لأسباب مترابطة تتعلّقُ بالتغير المتلاحق للأجيال والطفرة الرقمية والتحول الضخم في السياق الإقليمي والدولي إلخ فإن هنالك هزات كبيرة قادمة يلزم الاستعداد لها.
لي ملاحظة إضافية. من منظور فلسفة التسيير المعاصرة موريتانيا بلدٌ يعطي من بعيد الانطباع أنه سهل التسيير نسبياً إذا نظرنا إلى حجمه وطبيعة مداخيله وخريطة هذه المداخيل بالرغم من محدوديتها بل بسبب محدوديتها.
كما أن إخضاع تسييره للمعايير الفنية المعاصرة يعطي في البداية الانطباع، رغم بدائيةِ الطرق المتبعة حالياً محلّيا، أنه أسهلُ من أغلب البلدان التي لديها تقاليد تسيير تراكمية عتيقة أو بعضها عتيق ولا يمكن أحيانا المساس بجوانب كثيرة منها لأنها تتمتع بسلطة العادات الراسخة ومحاذيرها. من هذه الناحية رباعية دولة بدون تقاليد تسييرية عتيقة ودولة لها ديمغرافيا محدودة وشابة وخريطة اقتصادية ومجال ديموجغرافي بسيطان في تمفصلاتهما هي رباعية توحي بان موريتانيا - رغم فقرهابنسبة معتبرة في الموارد البشرية وفِي الموارد الطبيعية - أسهل تسييراً حتى من بعض الشركات الصغيرة أو على الأقلّ من أغلب الشركات تحت الدرجةالمتوسطة. ولكن موريتانيا وإن لم تمتلك إلا ميزانية شركة تحت المتوسطة ومصادر بشرية أقلّ من المتوفّر فيعدد من الشركات الصغيرة فإن تعقيداتها مغايرة طبعا لتعقيدات الشركات الصغيرة والكبيرة ومغايرة أيضا لتعقيدات أغلب الدول الصغيرة والكبيرة.بؤرة التعقيد تأتي بداهة من مجال جد معروف: علاقة الدولة بالمجتمع. هذا هو المجال الذي تراكمت فيه خلال عقود طفرات من اللاعقلانية، من السلوك الاعقلاني، من"التسيير" اللاعقلاني، من تغليب كثير منالمورثات المحلية والأجنبية ليس في فضاءاتها الخاصة الموروثة وإنما في الفضاء العمومي الجديد، أو الذي يفتَرض أنّه عمومي وإن كانت خوصصته تمّتْ بنسبة معتبرة. تمّ استثمار عددٍ هائل من العناصر العتيقة أو المستوردة المدمّرة لعقلنة الفضاء العام، استثمارها تحديدا في الفضاء العام. وهذا المسلسل لم يزدد في السنوات الأخيرة إلا تضاعفا.
وإذًا فإنّ أي مشروع تحديثٍ سيحتاج إلى جسارة كبيرة وإلى قدرة على الخروج جذريا من النموذج القائم ومن عقلية القائمين عليه وعقلية الذين تربوا تسييريا داخله أو تكوّن عقلُهم التسييري أو "السياسي" عبره. ولكن جزءا كبيرا من الطبقة السياسية بل ربما معظمها مدينٌ في عقله التسييري للنوذج المحلّي القائم.
الأخبار: تابعتم انتخابات سبتمبر الأكبر من نوعها في تاريخ البلد سواء على مستوى عدد الأحزاب المشاركة وكذلك على مستوى عدد صناديق الاقتراع. هل من تعليق على هذه الانتخابات؟
د. بدي ابنو : ليس لدي اطلاع كافٍ على ما حدث. ولكن متابعتي الجزئية والمعلومات المحدودة المتوفرّة مقلقة. من جديدة ندرك أن التجربة الديمقراطية كتجربة تحديثية تمَّ تفريغها بمستوى معتبَر من جوهرها لتُختصر في مسلسل اقتراعي نتيجتُه الأبرز هي تكريس المجتمع "التقليدي" المؤدول أو الذي يُعتقد وهماً أنه تقليدي، واستثمار تمفصلات المجتمع التقليدي في الفضاء الدولتي. والمواطنة هي الضحية الكبرى. وبديهي أنه بدون مواطنة، أو مشروع مواطنة، فلا تحديث ولا مساواة، أي لا وجود لشروط إمكانية الدمقرطة. والأخطر هو صياغة مجتمع نكوصي مسجون في المفردات الماقبل حديثة وفي توظيف العنف الرمزي المفرط لهذه المفردات وفيما يصدر عن تكريسها من الانشطارات الاجتماعية المتفاقمة.
الأخبار: حديث الرئيس ولد عبد العزيز في مؤتمره الصحفي مساء الخميس الماضي حمل تأكيدات على أن جميع المواد الدستورية قابلة للتعديل، هل أنتم ممن يعتقد أن الرئيس يخطط لمأمورية ثالثة؟
د. بدي ابنو : لا أعرف إن كان الرئيس الحالي يحضِّر لمأمورية ثالثة. ولكني أعرف أن لوبيات الوضع القائم تتمنى ذلك. وتَدفع بكلّ الوسائل نحوه. تحاول توريط الرئيس الحالي كما ورّطتْ كثيرين قبله وكما ستحاول أن تورّط من يأتي بعده. وهي طبعاً أوّل من سيتخلى عنه في أول فرصة. إنها لوبيات البيانيْن، والجيْبيْن. واحد لتأييد ومساندة القائم وإضفاء كل الصفات التمجيدية عليه ومطالبته بالبقاء إلى الأبد وواحد في الجيب الآخر لإدانته بكل الأوصاف السلبية ولتأييد من يخلفه.
أذكر شخصيا أني تحدثتُ مع الرئيس الحالي مرّات خلال المرحلة الانتقالية 2006 و2007 عن مؤسسة التملّق هذه وما ورّطت فيه الرؤساء السابقين وأذْكرُ سخريته الشديدة منها والحكايات التي أوردها عن مستوى التملّق والتزلّف الذي وصلتْه مع العقيد ولد الطائع. وأعتقد أنه يَذكرُ ذلك ويذكرُ العبارات التي أجاب بها حين تمّ الحديث عن إمكانية أن يسقطوا هم أيضا في المجلس العسكري حينها في الفخّ الذي سقط فيه "السيد الذي كان هنا".
للأسف السلطة فخّ كبير وتحجبُ رؤية كثيرين وتُسهّل تقبّلهم للتملّق والتزلّف حتى حين يعرفون أن الأمر مجرد نفاق رخيص للحاكم، أي حاكم، الماضي والحالي والقادم.
أعتقد أن الرئيس الحالي يعرف جيداً أنّ كل الذين يحدثونه عن البقاء لمأمورية ثالثة يهمهم بقاؤهم هم لا بقاؤه هو. وأنهم يمدحونه لمصلحتهم هم أو لما يعتقدون أنه مصلحتهم ولن يجدوا حرجاً في مهاجمته بأبشع العبارات إذا اقتضتْ ذلك مصلحتهم أو ما يعتقدون أنه مصلحتهم. هكذا أثبتتْ التجارب وهكذا أثبتتْ التجربة.
وكما تعرفون فقد ألححتُ على هذا الموضوع سابقا عدة مرات بما في ذلك خلال مقابلات سابقة معكم لاعتقادي بأهميته وبخطره على البلد. أختصر ذلك بنقطتين:
أنه بغض النظر عن تقييم أداء الرئيس الحالي فإنّ أمامه في هذه الفترة فرصة تاريخية غير قابلة للتعويض ويترتّبُ عليها تقييم وتقويم كل أدائه. فهو حين يعمل الآن من أجل انتقال سلمي نزيه سلس وجدّي للسلطة في الاستحقاقات القادمة يكون قد أنجز عملا مفصليا استثنائيا بالغ الأهمية تاريخياً لهذا البلد وللمنطقة ككلّ ويكون قد جنّب بمستوى كبيرٍ بلادَ المنكب البرزخي مخاطرَ انزلاقٍ كبيرة في ظلّ سياق عالمي وإقليمي صعبٍ وخطير للغاية.
النقطة الثانية أنقلها كما كتبتُها منذ ثلاث سنوات في مقال تحت عنوان "لا تحتاج الصحراء إلى عذابات إضافية ":" ليس من مصلحة أحد، أيا يكن تموقعه في السلطة أو في المعارضة أو خارجهما أن يتمّ المساس بالموادّ المحصّنة في الدستور. حتى لو اتّفقتْ كلُّ مكونات “الطبقة السياسية” على تعديل هذه الموادّ فإنّ ذلك لن يزيد المخاطر إلا حدّة. فخريطة ردود فعل الأغلبية الصامتة قد تغيرّتْ معالمها كثيرا. مبدئيا ومصلحيا يَلزم أن تبقى تلك الموادّ كلّيا خارج “البلابر”. ذلك ما تقتضيه المسؤولية حتى في حدّها الأدنى. ما حدث في عدد من الدول القريبة التي كانت تتمتع بسلم اجتماعي أقوى يكفي لإدراك مستوى الجنون الذي سيعنيه أي تعديل مباشر أو غير مباشر للمواد الدستورية المحصّنة".
عندما نسمع مستوى اللامسؤولية الذي يجعل البعض يرتكب جريمة التحريض على انتهاك النصوص الدستورية أي على مأمورية ثالثة بكل استهتار، ونرى أعضاء في الحكومة يرتكبون بإصرار وغطرسة وبشكل رسمي مكررّ وصريح ومعلن هذه الجريمة ويعرِّضون بهذا التحريض مستقبل البلد إلى مخاطر بديهية ويمرّ الأمر كأنه فقط مزاح عرضي ندركُ درجة الانحدار المؤلمة التي وصلها "العقل" السياسي السائد الذي يجسّده حدّياً تغول مؤسسة التملّق. أوْ كما يقول أبو تمّام "على أنها الأيام قد صرن كلّها عجائب، حتى ليس فيها عجائب".
الأخبار: الرئيس في مؤتمره الصحفي وفي خطاباته خلال الحملة الانتخابية اتهم أطرافا سياسية بالتطرف والعنصرية، كيف تعلقون على هذا الاتهام؟
ـ د. بدي ابنو : الذي يُقلقُ مرْكزياً أطرافاً معينة في النظام القائم هو أمرٌ أكثرَ آنية وعرضية. النظام نجح جزئياً في شلّ مكونات المعارضة التاريخية أو اعتبر أنه نحج في ذلك. ولكن حصولَ بعض أطراف المعارضة التاريخية على مكاسب انتخابية معتبرة راهنياً يكشف له أن استراتيجية استبدال المعارضة التاريخية وإن تغولتْ فإنها لم تنجح تماما.
أما فيما يتجاوز التيارات السياسية إلى الظواهر الاجتماعية كظاهرة التطرف فهل هناك ظواهر اجتماعية مركّبة يمكنُ أنْ تُكتشفَ فجأة خلال ساعات بسبب اقتراع ؟ لا يحتاج الإنسان لمعلومات خاصة ولا إلى تحليل استثنائي لفهم أن استخدام الوسائل العمومية لأجل المصالح الخصوصية وبشكل أكثر تحديدا لصالح أفراد وفئات قليلة أو من أجل استثمار وتعبئة وتكريس الانتماءات العرقية والشرائحية والقبلية في الفضاء العمومي وبصيغ شبه معلنة هو البؤرة الاًولى للعنصرية والتطرف وهذا ما تمارسه الأنظمة التي تعاقبت على هذا البلد منذ عقود.
يلزم أن نكون أكثر جدية ولو قليلا. حين يشير الأصبع إلى جهة العاصفة فهل هناك معنى للانشغال بشكل الأصبع الذي يشير وللإنشغال بالسؤال عن هلْ هو أعوج أم ملتو.
يُترجم هذا الوضع في جميع الأحوال مستوى متقدّما من نكوص كل المشروعات التحديثية في البلد، إن جاز طبعا الحديث عن مشاريع تحديثية هنا. من يتأمل في الخطاب السائد يدرك إلى أي درجة أصبح العقل التكفيري الدنياني، أعني عقل الذين يتوهمون - لنتصرّف قليلاً في جملة مشهورة تُنسب لابن سيناء - يتوهمون أنَّ الهداية محصورة في صورة فولكلورية نمطية ثابتة في أذهانهم، هو المهيمن لدى أغلب المتنفذين في أروقة الحكم وفي مختلف الأجهزة وهو طبعا المهيمن في الشارع، أي الصورة التي تلخّصها النكتة الشعبية التي تتحدّث عن مفوض طويلِ اللحية "متدين" بالمعايير الاستعراضية السائدة لا يتوقّف عن النوافل إلا ليشير بسرعة إلى مساعديه وبأصابع يده وهو قيد الإحرام بكمية المبلغ الذي عليهم أن يبتزوا من هذه السيارة أو تلك. لنسمي هذا السلوك بالتكفيرية الدنيانية.
كانت مقاومة التطرف أولوية جدّية لدى أصحاب القرار أو من يتوهمون أنهم أصحاب القرار فعليهم التفكير جديا وقبل أي إجراء آخر في مسألة التعايش والمواطنة، في مسألة العدالة الاجتماعية، في مسألة الإشكالية التربوية، في مسألة السياسة الثقافية، في مسألة التحديث والخروج من عنف المفردات العتيقة التي تستثمرها السلطة عبر تجارة الغيب في محاولة كسب بديل وهمي عن المشروعية الحديثة. من يريد مقاومة التطرّف عليه أولاً تفادي خلق الأزمات الاجتماعية والسياسية فهي بداهةً السياق الأنسب لإنتاج التطرّف. من يريد مقاومة التطرف عليه احترام المساطر الدستورية والقانونية. من يريد مقاومة التطرّف عليه أن يعمل من أجل أنْ يسع القانون والشرعية كلّ الناس لا أنْ يشعر البعض أنّ حقّه في الوجود والتعبير عن نفسه إلخ لا يمكن التمتّع به إلا خارج القانون. من يريد مقاومة التطرف عليه أن يجعل الناس تشعر أن كرامتها لا يمكن أنْ تُنتهك، عليه أن يجعل الناس تشعر أنها في دولة أي في حماية مؤسسات وقانون وتُحترمُ فيها المساطر القانونية ويُحترم فيها فصل السلطات ومعه تباين الصلاحيات وليست غابة تخضع للمزاج المتقلّب لشخص أو عدة أشخاص يوزعون صكوك "الوطنية" و"الخيانة" حسب تقلّب أمزجتهم. من يريد مقاومة التطرف عليه تحسين ظروف الناس الذين يطحنهم بؤس الحياة اليومية دون بارقة أمل.
الأخبار: اتخذتْ السلطات قرارا بسحب ترخيص مركز العلماء الذي يقوده الشيخ الددو في اعتبر نذر تصعيد صد التيار الاسلامي؟ نريد ان نفهم من الدكتور بدي المفكر تفسيره لأسباب هذا التصعيد ومن الدكتور بدي السياسي موقفه من هذه التهم؟
د. بدي ابنو : ليست لدي معلومات مؤكدة ولا شبه مؤكّدة. ولكن طبعا هنالك عدة فرضيات وجيهة وهناك عدة عوامل أحدها هو الأكثر ظهورا والأكثر ارتساما في كل سياق المرحلة الحالية. أعني وجود مجموعات أو لوبيات صغيرة أو كبيرة في أروقة الحكم تخاف بداهة أن تخسرَ ما تراه امتيازات في حالة ما تمّ الالتزام بالبنود الدستورية المتعلقة بانتقال السلطة. وهي غير متأكدة بعدُ أن الرئيس الحالي يسعى إلى مأمورية غير دستورية ثالثة وتريد أن تدفعه بكل قوة في هذا الاتجاه. تريد أن تضعه في ظروف أمنية متأزمة ستجعله في نظرها حريصا على التمسك بالسلطة ومتّجها بعماء نحو ما يسميه الإعلام بالمأمورية الثالثة. إنها لوبيات متجدّدة ذاتياً وكانت وماتزال بالغة الخطورة لأنه ليس لها فيما يبدو أي حدود أخلاقية.
اسمحوا لي أن أقول من جديد إنّ تجارب العقود الثلاثة الأخيرة يُفترض أنها قدّمت الدروس الكافية في هذا الباب.
لنأخذ المثال الأقرب جغرافياً. فكما تعرفون، في بداية التسعينات رفع بعضُ الإلغائيين في الجزائر ممن سموا أنفسهم بالديمقراطيين شعار "لا ديمقراطية لاعداء الديمقراطية" وألقوا بالأوساط التي كانت خلفَ قبول جبهة الإنقاذ بالمشاركة السياسية وبالقبول بالتعددية، سواء تعلّق الأمر بأوساط داخل الجبهة نفسها أو خارجها، ألقوا بها في الهامش ومنحوا بنفس الأسلوب ضمنيا مصداقيةً للأطراف الظلامية الأكثر تطرّفاً وتكفيرية ممن يَرَوْن أنْ لاجدوى في المشاركة السياسية ولا في القبول بالتعددية. والنتيجة تعرفونها : عشر سنوات جهنمية ومجازر جماعية ارتكتبتها أيادي الجماعات المتطرفة بفتاوى من تجار الغيب كما أرتكبتْها أيادي الجيش الذي يُفترض أنه جيش الشعب، بفتاوي تجارِ غيبٍ منافسين. وارتكبتْها بنفس المعنى الجماعات التي اخترقها أو عبأها الأمن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وفي المحصلة مئات الآلاف من القتلى والمقعدين والمشردين والمفقودين والضائعين إلخ. وكادت الجزائر أن تتفكّك كدولة. وما تزال تدفع فاتورة تلك العشرية السوداء وتدفعها معها كل دول المنطقة وما تزال طفرات وانشطارات الجماعات الظلامية التي أنجبتْها تلك العشرية تتمدّد في المنطقة وتنخرها إلى الآن بعد 27 سنة منْ جرة قلم ارتجالية.
سيقول البعض إن موريتانيا تختلف. صحيح. ونحن جميعا نعرف ماذا أدّتْ اليه قصة "بلدنا يختلف" من مآس في كثير من بقاع العالم خصوصا في السنوات الأخيرة. موريتانيا فعلا تختلف. والسياق يختلف. موريتانيا دولة بالغة الهشاشة أنشِئتْ أصلا على تناقضات بنيوية أكبر من قدراتها الذاتية كدولة وليدة. والعالم أجمع يَعرفُ اليوم عاصفة سياسية مفصلية تقتضي كثيرا من الحكمة وليس القرارات الارتجالية وتضخّم ذوات أصحاب القرار حين يتوهمون أنههم يمتلكون الحقيقة الحصرية. توهم امتلاك الحقيقة المطلقة حصريا والتصرّف بمقتضى ذلك هو بالضبط المرادف الحرفي للتطرّف الظلامي. الاٍرهاب يبدأ حين يتوهم طرفٌ ما أن الحقيقية هي ملكٌ حصري له ويبدأ يتصرفُ باسم هذه الحصرية.
مرّة أخرى فإن موريتانيا كما يعرف الجميع وفيما يتجاوز عبارات المجاملة دولةٌ بالغة الهشاشة في بنيتها كدولة، وبالتالي تحتاج من كلّ الأطراف إلى كثيرٍ من الروية والبصيرة والحكمة. ومع أنّي لا أدّعي أني في موقع يسمح لي بتوجيه النصيحة لأحد، فإنني أعتقد أن الواجب يقتضي من الجميع ولا سيما من الأطراف الفاعلة في الحكم اليوم التوجه إلى التهدئة، إلى عقلنة الأفعال والأقوال، إلى إبعاد هذه المنطقة المسكينة عن مزيد من المعاناة، إلى السماح لموريتانيا بتفادي التداعيات المتصاعدة للعاصفة الشديدة التي يمرُّ بها راهنياً العالم أجمع. المؤكد أن هذه الصحراء المؤلمة والعنيدة لا تحتاج إلى عذابات إضافية. ما زال فيها بمعنى ما شيءٌ مما يشبه رمزياً ما حَّدث به عنها ابن بطوطة قبل سبع قرون. قال الرحالة الأشهر: "وتلك الصحراء كثيرة الشياطين، فإن كان التكشيف (أيْ دليل القافلة) منفرداً لعبتْ به، واستهوتْه حتى يضلَّ عن قصده فيهلك، إذ لا طريق يظهر بها ولا أثر، إنما هي رمال تسفيها الريح، فترى جبالاً من الرمل في مكان، ثم تراها قد انتقلتْ إلى سواه ... ورأيتُ من العجائب أن الدليل الذي كان لنا هو أعور العين الواح