لن أكتب عن الزعيم أحمدو ولد حرمة في ذكراه الأربعين باعتباره والدي، لأنه هو من قام على تربية والدي، فكان له نعم الأب بعد وفاة والده، ولن أكتب عنه باعتباره مجرد سياسي موريتاني تولى في مرحلة معينة منصب نائب موريتانيا في البرلمان الفرنسي.
ولكني سأوجه كتابتي عنه إلى أعمق من ذلك، فالرجل يستحق على هذه البلاد أن تقف له وقفة إجلال وتقدير، لأنه بذل في سبيلها نفسه ونفيسه، ولم أقل عنه هذا من منطلق عاطفي، ولا من وجهة نظر الإبن المعجب بسيرة والده، بل أقوله شهادة لله وأداء لحق الأمانة العلمية، بعد أن سبرت أغوار الإرشيف الفرنسي سنين عددا، وفتشت في أروقة المراسلات الإدارية السرية بين حكام فرنسا في الدوائر الموريتانية وبين الحاكم العام للمستعمرات الفرنسية في غرب إفريقيا.
لقد درس الفرنسيون بعناية شديدة ودقة متناهية كافة جوانب شخصية الزعيم أحمدو ولد حرمة، وحاولوا معه بشتى الوسائل المتاحة من ترغيب وترهيب، فلم يجدوا فيه إلا الثبات على دينه والتمسك بثوابته، والحرص على مصالح بلاده موريتانيا، ومصالح الأمتين العربية والإسلامية.
وبعد يأسهم من ثنيه عن وجهته حركوا ضده أعوانهم وأذنابهم وأذيالهم وأجلبوا عليه بخيلهم ورجلهم، فما زاده ذلك إلا إيمانا بقضيته وحبا لأمته وبغضا للمستعمر الغاصب.
وقد اطلعت خلال بحثي الانفرادي في الإرشيف الفرنسي على الكثير من الوثائق التي تثبت بشكل قاطع إجماع الحكام الفرنسيين في موريتانيا على أن الزعيم حرمة ليس رجلهم المناسب الذي يمكنهم من خلاله تمرير مشروعهم الاستعماري التوسعي، وليس من الرجال الذين تمكن إدارتهم من الخلف، وتوجيههم نحو أهداف غير الأهداف التي يقتنعون بها.
ومن أجل الحصول على أكبر عدد من وثائق ومراسلات الإداريين الفرنسيين في موضوع الزعيم استعنت بأخي الأكبر الباحث المقتدر الدكتورعبد الرحمن بن حرمة على تمحيص الإرشيف وغربلته، وقد توصلنا بعد التحري والتدقيق على مجلدات ضخمة من الوثائق منها ما يستحيل نشره لما يترتب عليه من كشف للستر الواجب عن بعض المسلمين عفا الله عنا وعنهم. ومنها جانب وهو الأهم يلخص سيرة الرجل مع الإدارة الفرنسية وتحزبهم ضده، ووقوفهم صفا من أجل منعه من تسلم مقاليد الأمر في بلاده لمأمورية ثانية بعد أن جربوه في المأمورية الأولى بين 1946 و 1951 فلم يجدوا منه ما يسرهم.
وتكشف الوثائق نماذج من قوة شخصية هذا الرجل الفذ واطلاعه على ما كانت الإدارة الاستعمارية تحوك ضده من مؤامرات، فنجده يبعث رسائل ينبه فيها الحاكم العام في دكار على التحركات المشبوهة للحكام الفرنسيين ضده، ويقدم تقارير عن خوضهم للحملة ودعمهم لمرشحين آخرين ويبين بلغة رصينة أن هذا التصرف المشين مناف لما تدعيه السلطات الفرنسية من حياد الإدارة ووقوفها على نفس المسافة من جميع المترشحين، كما نبه في رسائل أخرى على خروقات شابت عملية توزيع بطاقات الناخب قبيل انتخابات 1951 وكيف حرمت بعض الدوائر التي يوجد فيها أنصاره من الحصول على بطاقات التصويت في الوقت المناسب.
ونجد في جانب آخر من الوثائق نوعا آخر من مضايقة الزعيم بعد كل ما مورس ضده من ظلم واستهداف، حيث وجه إليه الحاكم الفرنسي في سينلوي رسالة يقول له فيها بالحرف الواحد: "إن أي إخلال بالأمن بعد إعلان نتائج انتخابات 1951 ستواخذك به فرنسا ولن تتساهل معك في شأنه" .
والعجيب في أمر هذا الرجل البدوي المنشأ هو شجاعته المنقطعة النظير حيث استطاع في تلك الظروف الصعبة أن يقول "لا" بصوت مرتفع يسمعه من ليس في أذنيه تصامم من الرجال المنصفين.
كم قال "لا" كلما المستعمرون طغوا
و"لا" متى قسمت ظلما فلسطين
وسأنبه هنا للأمانة أن ما كتبه الفرنسيون عن الزعيم أحمدو ولد حرمة كان في جوانب كثيرة منه أكثر موضوعية وأمانة علمية من كثير مما كتبه عنه أبناء جلدته الذين ضحى من أجل إسماع صوتهم المبحوح، وحارب باليد واللسان من أجل حصولهم على العيش الكريم.
وأختم هذه التدوينة بما ختم به علامة موريتانيا ومفخرتها محمد فال بن عبد الله (اباه) أطال بقاءه مرثيته للزعيم أحمدو بن حرمة رحمه الله تعالى حيث يقول:
فاحمد سراك مع التلاوة ساهرا ... إن راح ساري القوم محمود السرى
ودع الزمان يقص من أنبائه ... غررا ويتخذ القوافي منبرا
يارب فارحمه واكرم نزله ... واجعل فراديس الجنان له قرى
واخلفه في أبنائه واجعلهمُ ... عند المنى أو فوق ذلك مظهرا.