خلال العديد من النقاشات والأحاديث الطويلة حول المشهد السياسي في البلد ، وحول الفاعلين فيه ، طالما حكى لي صديق شخصي و أحد العارفين بالأستاذ سيد محمد ولد محم ، أن الأستاذ لن يجد نفسه في الحزب الحاكم أو لن يجد الحزب الحاكم نفسه في الأستاذ سيد محمد ولد محم، هكذا يقول الصديق وهكذا يفهم ، ويعتبر أن الإثنان لا يجتمعان على هدف ولا عقيدة ، ولا يلتقيان معا كخطان متوزيان إلى الأبد .
وجهة نظر مقبولة جدا ومقنعة من صديقي، فالأستاذ ولد محم من ثقافة والأحزاب الحاكمة ثقافة أخرى قائمة ومستقلة ..ثقافة نقيض لثقافة الرجل ولثورية طرحه المعرفي وتصوراته النظرية التى تناقض بلادة الأحزاب الحاكم ورجعية طرحها وتشبثها بالممارسة التقليدية للسياسة .
يعزز صديقي كلامه بتصور نظري يطرحه المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد وهو أن المثقف يفقد قدرته على أن يكون مثقفا كلما أقترب من السلطة وكلما عبر عن السلطة ، فالسلطة في ذاتها ثقافة قائمة ترغم رجالها على التعبير عنها لا عن التعبير عن ذواتهم ..وان الأستاذ سيد محمد حسب هذا المنطق معني بالتماهي مع السلطة .. مع الحزب الحاكم مع ثقافته مع قانون الجاذبية الذي يحكم كل رجال السلطة .
لم أقدم الكثير لأعبر عن خلافي لهذه الرؤية، فقط راهنت على الزمن وعلى الوقت وكلي ثقة أن الأستاذ سيد محم سيغير مجرى النهر ..سيقلب دوران الشمس ..سيحدد خطوطا جديدة للعمل السياسي على مستوى الأحزاب الحاكمة .. كنت مراهنا على أنه سيغير عقارب الساعة ،، سيراجع المسلمات ..سيكفر بالزمن الذي ينتمي للوراء ويعود للوراء .. لكني لم اتوقع أن اكسب الرهان بهذه السرعة أن ينهار جبل الجليد بهذه السرعة .
لم أتوقع أن تستسلم ثقافة متراكمة من الخمول ومن العجز واللعب في الفراغ بهذه السرعة وترفع الراية البيضاء ، وينزل سدنتها وكبار منظريها لشوارع البسطاء يكنسون زمنهم الرديء ويكنسون معه عمرا من العبث بالتاريخ والمجتمع والثقافة ، لم أتوقع أن تخرج من اي حزب حاكم في الوطن العربي حملة تطوعية إلا لمزيد من التنافس على كعكة السلطة وعلى رضى الحاكم .. فخاب التوقع، وخرج شباب الحزب الحاكم الموريتاني متطوعين لتدريس أبناء البسطاء في أحيائهم وتحسين مستوياتهم المعرفية ، هذا الشباب المنذور تاريخيا للمبادرات الجهوية والقبلية يخرج اليوم عكس التيار .. عكس التاريخ ..إنه حدث كبير في عمقه وفي معناه السياسي وسيكون منعطفا كبيرا في الممارسة السياسية للأحزاب الحاكمة ولرجال السلطة .
نعم منعطف كبير، وإنتصار كبير للإرادة وللطموح ولثقافة التمرد والرفض .. ثقافة التغيير وبناء البدائل وقيادة المشاريع النهضوية ..نعم نجح ولد محم و حقق الإنتصار الكبير على ثقافة الرداءة وثقافة الخمول والإستسلام ، والأهم إنتصاره على الواقع وتأكيده على أن الواقع هو مايريده الإنسان ويسعى إليه وليس مايحيط به ويحكم تصرفه .. نعم أنتصر ولد محم .. وكسبت الرهان ياصديقي ، ولن يجد الباحثون في الثقافة السياسية وفي تاريخ التغيير والتحولات الإجتماعية حدثا وطنيا أكثر دلالة وعمقا من هذا الحدث وهذا التغيير في الثقافة والسلوك .