تتغير الحياة مسرعة فى مدينة بتلميت.. مضى كثيرون، وجاء كثيرون.. لكن باب ولد محمود ما زال على عهده مع المدينة وأهلها، ظل خبز باب عنصرا ثابتا على موائد أهل المدينة لسنوات طويلة، يتندر أهل بتلميت على خبزه، إذ يقولون: " أمبور باب مايتقاب"، خبز باب لانظير له.
ولباب أيضا بوق يختص به من بين أهل المدينة، وله نظريات فى السياسة، ستخرج المدينة من أزمتها إن عرفت طريقها للتطبيق.
فى العام 1940 وضرام الحرب العالمية الثانية اشتعل لتوه، ولد باب لأسرة أهل محمود ذائعة الصيت فى المدينة، كان ميلاده فى سنوات عرفت فيها البلاد مجاعة كبرى ، حتما انعكس ذلك على حياة الأسرة، كما أهل المدينة.
تسرب باب من المدرسة حين وصل للسنة الرابعة ابتدائية، يشكو تهاون أساتذة العربية وقتذاك، يسترجع بنبرة ضاحكة فرحة، كيف كان الأساتذة الفرنسيون يبحثون عنهم فى الأخاديد الرملية شرق المدينة، ويذكر تفقدهم للتلاميذ فى المنازل، انعكس اجتهاد الفرنسيين على مستوى باب فى اللغة الفرنسية، يجيدها كتابة، وتحدثا.
فى العام 1953، وصل الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال ديغول إلى مدينة بتلميت، يتذكر باب ذلك اليوم، وتفتأ الابتسامة المائلة ، عند ذكر الفرنسيين متبرعمة على شفتيه، ويقول من بين وجنتين غليظتين، تجللهما لحية بيضاء مشذبة بعناية، ليتهم عادوا، ماجنى على هذه المدينة إلا أبناؤها.
صادف وصول الجنرال ديغول إلى أبي تمليت وفاة الرئيس السوفياتى استالين، أرسلت برقية تعزيته من مقر الحاكم الفرنسي المطل على المدينة من جهتها الغربية، ظلت البرقية فى أرشيف المدينة إلى أن صال عليها أحد الحكام، أيام المد القومي فى وزارة الداخلية، أحرقها باعتبارها إرثا استعماريا.
أحداث كثيرة مرت على المدينة، وباب ، لكن الحدث الأكبر كان وصول طريق الأمل منتصف سبعينات القرن الماضي، كان باب بروحه الفكهة، يقول لمهندسي شركة ميندز البرازيلية، إن هم حدّثوه عن قرب وصول الطريق إلى المدينة، "لن تصلها إلا ذا كانت قادمة من السماء".
باب الخباز
قصة باب مع الخبز بدأت عام 1954 مساعدا لخبازين من غرب أفريقيا بالمدينة، ثم مارس التجارة بين ضفتي نهر السنغال ، اتجه منتصف الستينات إلى أقصى الشمال الموريتاني، عمل فى السكة الحديدة التابعة لشركة"ميفرما"، ثم ما لبث أن أعاده الحنين إلى مرابع صباه، بتلميت، و"الجنكة".
شيد مخبزا، وسط المدينة ، ستحمد المدينة وأهلها هذا الفعل فترة طويلة من الزمن، قبل صولة المخابز الحديثة، شكا خبازوا "الحطب" ، وبقي باب صامدا، بل شيد مخبزة أخري، وما زال بعض أهل المدينة يحج إليه طلبا لنكهة عهدها أيام صباه، أو حدثه عنها أب أو جد، أو عابر سبيل حتى.
ما زال باب يستيقظ فجرا ويبدأ يومه، مراقبا على خبازيه، كبر عن الخَبْز، لكن عينه المجربة ما زالت ترقب. يرأس اتحادية مخابز الحطب، على مستوى المدينة.
الحاج باب والبوق
يستمع أهل بتمليت يوميا إلى أربعة أبواق، نداء المؤذن محيعلا على الفلاح، وباعة الرصيد، وزمّارات الشاحنات الضخمة العابرة من وسط المدينة، وبوق باب ولد محمود.
يفتخر باب ببوقه كثيرا، فيما يتندرعليه بعض أهل المدينة، ويعتبرون نداءاته موعدا مع الفكاهة.
ينادى في بوقه للصلاة على الجنائز، يحرّج على الضالة، ويدعو سكان المدينة إلى المهرجانات، إذا ألمّ بالمدينة مسؤول أو سياسي.
يعرف أهل المدينة نوع المنادَي لهم عليه،من نبرة الصوت، المنكسرة الحزينة، ذات الدعاء، للجنائز، وذات الوعيد للضائعات، والفَرِحة المرحة للمهرجانات السياسية، يُجوِّد الجمل ويضغط على الحروف حسب المناسبة ، وحجم الضيف، فتأتى مثلا جملة،"الديمقراطية الإستحقاقية" ممالة ممدودة كمن يقرأ برواية ورش عن نافع.
حج باب بيت الله الحرام ثلاث مرات متتاليات، الاولى1973 عنه ، والثانية عن أمه، والثالثة عن أبيه، يقول وهو يمسك بيده المُكنّبة بوقه، "إن فكرة البوق بدأت مع حجتي ، حين قدت وفدا من أمِّيى المدينة إلى بيت الله الحرام، اشتريت البوق ، وكنت أنادي على من ضل طريق المخيم، وعزمت على العودة به إلى المدينة، ومذ ذاك التاريخ وأهل بتلميت يستمعون إلي من البوق".
لبوق باب قصة شد وجذب مع السلطات المحلية فى المدينة، أنهاها طيب الذكر حاكم المدينة السابق المرحوم جاغيلي، شرّع لباب حمل البوق، والنداء فيه، معترفا بجميل أفعاله ،وأهميتها.
يفتح باب عينيه ملء اتساعهما وهو يتحدث عن فترة الحاكم العادل جاغيلي كما يسميه، ينهي ثناءه، مغمضا عينيه، بالترحم عليه.
مازال الحكام الجدد وبعض ضباط الشرطة، يستفسرون عن هذه الظاهرة، يسكتهم نبل المهمة، متكئا على التصريح السابق، وشخصية باب الحديدية.
يقول إن كل نداءاته فى سبيل الله، ويحكى رؤيا فى المنام لأحد أعيان المدينة له مع النبي صلي الله عليه وسلم وأصحابه، ممسكا بوقه ينادي بينهم.
باب السياسي
يقول باب إنه لم يعارض الدولة قط، وما ينبغي له ولا للعقلاء ذلك، ولا يقرب المعارضة أبدا.
قصة باب مع السياسة، بدأت مبكرة مع حزب الشعب ، كان عضوا فيه، ساهم مع شباب المدينة الحزبيين فى بناء المفوضية، وبعض المرافق الأخرى.
اقترحه الحاكم السابق للمدينة محمد الأمين السالم ولد الداه فى الهياكل أيام حكم هيدالة، نائبا أول للمسؤول عن الشباب فى مكتب المقاطعة.
عرفه أهل المدينة بعد ذلك "بوقا" لمهرجانات الحزب الجمهوري، أو منظما لفرق الطبول، ـ ورثها عن أبيه ـ.
منذ 2005 ساند الانقلابات، ومن أتت به، يشغل حاليا رئاسة حي عن حزب الإتحاد من أجل الجمهورية، يذكر الرئيس الحالي محمد ولد عبد العزيز بالخير وينعته بالبطولة ويصفه بالشجاع الذي يهابه أهل الخارج والداخل. ويضيف أنه مع عزيز من بدايته حتى نهايته.
يسعى باب إلى تطبيق الديمقراطية، وحقوق الإنسان، ويطلب من القيادة التدخل لتقسيم الإسعاف، يقول باب إنه ضل طريقه إلى أسواق المدينة. ويطلب تمثيلا أكثر للفقراء فى السياسة العامة للمدينة.
يخشي على المدينة الضياع، إن واصل أهلها التعامل باستهزاء مع تاريخها ـ بما فيهم هوـ.
لباب نظرية عمّالية تسعي إلى لمِّ الصفوف والحفاظ على النسيج الاجتماعي للمدينة، يقول إنه أدرك أهل المدينة عليها.
تقوم النظرية على أن يتولى كل فريق ما يتقن من أعمال ويختص به ، وهكذا تتكامل الجهود وتفى كل فرقة بحاجة الأخرى، يقول أدركت أهل المدينة متعايشين على هذا النول
يتأوه حانّا إلى ذلك الزمن، ويزيد لكن ما مضي لن يعود،يحرك رأسه أفقيا،دلالة النفي،ويمسك عن الحديث، إذ لاوجه للمقارنة بين زمانهم، وزمان الناس هذا.
يعرف أهل المدينة لباب فضله ويحفظون له الود والعهد، أتى همٌّهم على جسده، وتمضي الأيام،ونفس النظرة المتقدة الذكية تتوهج فى عينيه.مازال باب ولد محمود يتألم مع المدينة وعليها.
تستيقظ بتلميت مستعدة لصباح جديد من صباحات صيفها اللاهب، ويقف باب أمام مخبزته عند العَدوة الأولى، وسط المدينة، يحمل معه همّ المدينة ، وبوقه، وخمسة وسبعين عاما، و"أمبور باب مايتقاب ".
صحراء ميديا