ستويفي إطار أنشطتها الثقافية المخلدة لهذا الشهر الكريم دعتني نقابة الصحفيين الموريتانيين والشبكة الوطنية للتنمية الثقافية وهيئة المعلومة بنت الميداح للثقافة والفنون إلى تقديم محاضرة ضمن سهرات "ليالي رمضان" حول مكانة الفنون في الثقافة الموريتانية . لكن نظرا إلى العلاقة الوثيقة بين الأمن والثقافة وخاصة في هذه الأيام التي ازدادت فيها سطوة الإرهاب والتزمت ارتأيت أن أتناول الموضوع من زاويتين : زاوية معرفية خالصة حاولت من خلالها الوقوف على طبيعة العوائق المعرفية والفنية التي تعيق الفن في بلادنا عن الاضطلاع بدوره في الإصلاح والتغيير ، وزاوية أمنية استراتيجية أو لنقل سياسية لها صلة بالبيئة الحاضنة للإبداعات والظروف الكفيلة بحمايتها من الإرهاب الفكري مهما كان مصدره داخليا أو خارجيا من جهة و بالسياسات الثقافية وعلاقة الفنان بالسلطة وما يتعين عليها فعله تجاه الفن والفنانين من جهة أخرى. سأبدأ مداخلتي بمجموعة من الأسئلة التمهيدية على النحو التالي: كيف تضطلع الفنون الجميلة برسالتها على الوجه الأكمل؟ وما هو نوع الثقافة الذي تزدهر فيه الفنون وتؤدي رسالتها في الإصلاح والتغيير ؟ ما هو الدور المنتظر من الفنان في مجتمع كمجتمعنا ؟ وما الذي ننتظر من المجتمع والدولة إزاءه ؟ هذه هي جملة الإشكالات التي سأحاول أن أحوّم حولها في ضوء العلاقة الثلاثية بين الثقافة والمجتمع والسلطة. لذلك فالأمر كله لا يعدو كونه إثارة للعديد من الملاحظات أو الفرضيات التي تحتاج إلى الإثبات أو النفي من خلال بحوث علمية جادة واستقصاءات دقيقة.
ما لا أجزم به ولا أدعيه هو مطابقة تلك الملاحظات للواقع ، لكن ما أجزم به هو أنني حاولت قدر الإمكان أن أتسم بالكثير من النزاهة الفكرية وبالقليل من الحياد الإيجابي. يمكن القول بصفة عامة بأن نموذج الثقافة السائد في مجتمعنا بالإضافة إلى التصوف هو الثقافة البيانية القائمة على دعامتين أساسيتين هما الشعر والفقه وبالذات الفقه القائم على التقليد والثقافة الفروعية والابتعاد عن الاجتهاد الذي "طارت به عنقاء مغرب" على حد تعبير سيدي عبد الله ولد الحاج ابراهيم. هذا النموذج للأسف يبدو أنه غير قادر على أن يخرجنا من دوامة التخلف الحضاري في جانبه المادي على الأقل وبالتالي فلا سبيل للخروج من هذا المأزق إلا بتوطين الحداثة والفكر التنويري. نحن بحاجة إلى جرعة كبيرة من الحداثة . وفي اعتقادنا أن المحافظة على هذا النموذج من الثقافة دون تجديد ودون تطوير يؤدي إلى تكريس ما يسميه علماء الاجتماع بإعادة الإنتاج : إعادة إنتاج الأنماط التقليدية من المجتمع في كافة المجالات : مجتمع يكرر نفسه في أشكال ثابتة عبر الأجيال . أما محاولات تثويره من الداخل بالإبقاء على نفس القوالب الفكرية وأساليب التفكير المتوارثة فيبدو أنها تؤدي في بعض الأحيان إلى التزمت وإلى جمود أكبر يظهر أحيانا من خلال بعض الظواهر السلبية مثل التكفير والقتل على الهوية ...إلخ. لذلك فإننا لا نجانب الصواب إذا ما أثرنا فرضية الارتباط العلي أو السببي بين حالة الجمود التي تسود هذا النمط من الثقافة وبوادر الثورة عليه التي انعكست من خلال بعض الظواهر التي لم يعرفها المجتمع من قبل كالإلحاد والتشيع ... إذن الأمر لا يعود فقط إلى عامل خارجي هو طغيان المادة في العصر ما بعد الصناعي وإنما أيضا إلى عامل داخلي هو عجز هذا النمط من الثقافة عن تجديد ذاته ومواكبة العصر . هذا الحدث الحضاري ليس جديدا في الواقع. المسلمون عالجوا هذه المشكلة - مشكلة الحاجة إلى الإقناع - في بدايات الدولة الإسلامية بالانفتاح على علوم الأوائل (العلوم اليونانية والهلنستية الرومانية وغيرها من علوم الحضارات الأخرى وفلسفاتها) وترجمتها واستيعابها في بنية الثقافة الإسلامية فازدادت الدولة الإسلامية قوة إلى قوتها وتوسعت رقعة الإسلام واستطاع أن يشيد امبراطورية من أعظم الامبراطوريات التي عرفها التاريخ : من شبه الجزيرة الهندية شرقا إلى شبه الجزيرة الآيبيرية غربا. فلما انتكس المسلمون إلى التقليد والجمود في المغرب والأندلس في عصر الدويلات أنكرهم الآخر وأنكروه ودارت الدائرة على العقل واستدار الزمان ! في هذا السياق سأتحدث عن حدثين هامين لهما صلة بطبيعة الحال بالموضوع وهما أيضا مرتبطان فيما بينهما ارتباطا عضويا. أحدهما حدث إقليمي والآخر ظاهرة اجتماعية- ثقافية سيئة يبدو أنها آخذة في الانتشار في بعض الأوساط. * الحدث الأول هو حادثة الاعتداء على مدينة النوارة المالية المتاخمة لحدودنا الجنوبية الشرقية مع ما تحمله تلك الحادثة من تهديد حقيقي للأمن الإقليمي لبلادنا نظرا لتداخلها العرقي والجغرافي مع المنطقة المذكورة. وهو ما يقتضي في نظرنا جعل الأمن أولوية الأولويات وغاية الغايات في هذه المرحلة فلا فنون ولا ثقافة ولا تنمية بدون أمن . هل تعتقدون أن جمعا كهذا من المثقفين والفنانين والصحافة وقادة الرأي كان سينعقد لو أن القوى الظلامية انتصرت على جيشنا المرابط في الثغور ؟! الإجابة هي بالطبع لا . هنا استحضر استعارة الإمام الحضرمي المرادي صاحب "الإشارة في تدبير الإمارة" في ضرورة الموازنة بين الحاجة إلى الأمن والاهتمام بالجيش من ناحية والحاجة إلى العدالة والاهتمام بالشعب من ناحية أخرى حيث وصف الحاكم الذي يتكئ على إحدى الدعامتين دون الأخرى بقلة الدهاء : فقد شبه الحاكم الذي يعوّل على الجيش وحده ويهمل أمور العامة والشعب براكب الموج لا يدري متى يثور عليه ، والذي يعوّل على الشعب ولا يعير اهتماما بالجيش براكب الأسد لا يدري متي ينقلب عليه. لذلك فإننا نحمد الله على وجود جيش قوي وقيادة قوية فرضا هيبة الدولة في الخارج ويدافعان عن الشعب ضد التهديدات القادمة من دول فاشلة مزقها الإرهاب ومن صحراء مترامية الأطراف عجزت أعتى الامبراطوريات القديمة عن السيطرة عليها وعجزت عن ذلك أيضا الامبراطوريات الاستعمارية والقوى الكبرى في أيامنا وهذا الأمر يستحق منا جميعا الإجلال والإكبار. لكننا لا نزال نحتاج إلى تماسك الجبهة الداخلية وإلى شعور كل طرف بجسامة التحديات التي تواجه الدولة في هذه المرحلة الحرجة من تاريخنا وبالتالي فلا حل لنا سوى الحوار الذي من شأنه أن يوفر الأرضية الملائمة للمصالحة وتحقيق المزيد من العدالة الاجتماعية وتحسين الحكامة السياسية...وهو ما يجعلنا في وضع نكون فيه قادرين على مواجهة الخطر الخارجي مجتمعين صفا واحدا وطالما أن الحرب كما يقول فلاسفة السياسة لا تكمن بالضرورة في الاعتداء الفعلي بل في إرادة الاعتداء وتنفيذه عندما تحين الفرصة في حالة الضعف أو الفوضى أو التحول إلى دولة فاشلة فإننا بهذا المعنى في حالة حرب ضد الخطر القادم من كل الجهات تقريبا. * أما الحدث الآخر الذي أرغب في الحديث عنه والذي لا يمكن الفصل بينه وبين الحدث الأول فهو التزمت وإرهاصات الدولة الدينية التي أصبحت تشتم رائحتها في الكثير من خطابات الفقهاء وانعكست للأسف في عداء صريح للفلسفة وللفكر التنويري. والحقيقة أنه ما ساد هذا النوع من الظواهر في بلد إلا أسرع إليه الخراب والفتنة الداخلية وآل به الأمر إلى الانحلال والتفكك والأمثلة في التاريخ عديدة : في المغرب والأندلس كان التشدد والتعصب أو ما يسميه مالك بن نبي بـ"أفكار ما بعد الموحدين" سببا من أسباب سقوط الخلافة وزوال الدولة الإسلامية . ونحن نعرف قصة منشور ابن أبي عامر في تحريم الفلسفة يقول : "فإنه كلما قيل فلان يقرأ الفلسفة ويشتغل بالتنجيم حبسوا عليه أنفاسه فإن زل في شبهة رجموه بالحجارة وأحرقوه قبل أن يصل أمره إلى السلطان". صحيح أن الصراع بين الفقهاء والفلاسفة صراع قديم وهو صراع سياسي وأيديولوجي لأنه يحمل في داخله إرادة معينة للقوة والسلطة : ومن أمثلة ذلك الصراع محنة الإمام أحمد بن حنبل ذي النزعة السلفية مع الدولة العباسية التي تبنت فكر الاعتزال في عهد المأمون . وعلى أية حال لم ينجح مشروع الفقهاء المناهضين للفلسفة ولعلم الكلام وإلا لكانت النتيجة التي رأيناها كتلك التي حدثت في الأندلس : انقسام الدولة إلى دويلات وسقوط دولة الخلافة. الآن ربما أدركتم العلاقة الوثيقة بين الثقافة والظواهر التي تحدثت عنها : فلا ثقافة مع الإرهاب ولا ثقافة بدون أمن لأنه بفضل الله سبحانه وتعالى وبفضل قدرات جيشنا نحن الآن هنا في هذا الرواق نفكر بحرية ، ونعبر عن آرائنا بالطريقة التي تعجبنا بل وأكثر من ذلك نتمتع بثمار عملنا ونشعر بالأمن والطمأنينة وليست مالي ولا نايجيريا ولا ليبيا ولا تونس ولا مصر منا ببعيد : لذلك ليكن شعارنا : يا رجال الثقافة في العالم اتحدوا ! - المحور الثاني الذي سأحاول الحديث عنه في هذه المحاضرة هو العلاقة الثلاثية بين الثقافة والمجتمع والدولة وسأأخذ نموذجا من الثقافة وهو الفن بالمعنى الواسع لهذه الكلمة وسأتطرق بشيء من الإيجاز إلى مكانة الفن في الثقافة عموما ذومكانته في ثقافتنا الموريتانية بشكل خاص. فكما تعرفون أن تطور الفنون مؤشر على رقي المجتمعات وتطورها . لذلك سأحاول فيما يلي بحث العلاقة الثلاثية بين أنواع مختلفة من السلطة هي: سلطة الثقافة : (الفنان كنموذج للمثقف وما يتعين عليه القيام به)، وسلطة المجتمع بما هو المنطلق والهدف من رسالة الفنان، وسلطة الدولة باعتبارها الراعي الحقيقي للثقافة والفنون والهدف من كل ذلك هو محاولة خلق التوازن بين هذه الأنواع المختلفة من السلطة داخليا وخارجيا: داخليا ضمان التوازن بين العناصر المكونة لكل سلطة على حدة وضمان قيام كل عنصر فيها بدوره كاملا في الإصلاح والتغيير البنّاء ، وخارجيا ضمان التوازن بين هذه السلط الثلاث للحيلولة دون هيمنة إحداها على الأخريات مما يؤدي إلى تغييب دورها وما يترتب على ذلك من أخطار. 1- الفنان ما له وما عليه : الفن رسالة حضارية وإنسانية سامية وهو علاوة على ذلك لغة كونية يتحدثها الجميع لا تحتاج إلى الترجمة. لذلك يتعين على الفنان من خلال الكلمة والآلة الموسيقية وخشبة المسرح وآلة التصوير والقلم والريشة أن يكون دائما مرآة للمجتمع فيكرس في سلوكه وإبداعاته رسالة الفن العظيمة وهي إصلاح المجتمع وتغييره علاوة على الترفيه والإمتاع وإدخال البهجة والسعادة في نفوس أفراده. لذلك عليه أن يسعى دائما إلى الإبداع وأن تحمل إبداعاته أمورا مفيدة للدولة والمجتمع والحضارة والإنسانية على نحو من التدرج : من المجتمع إلى الدولة ومن الدولة إلى الحضارة ومن الحضارة إلى الإنسانية جمعاء في أفق مفتوح وذلك من خلال ترويج القيم الإيجابية كالمحبة والتسامح والسلام ومحاربة القيم السلبية كالكراهية والعنصرية والعنف . وهنا لا بد من التمييز بين الفنان و"إيـﮕيو" من حيث مضمون الرسالة والهدف الذي يحمله كل منهما. اعتقد أن التحليل الفيلولوجي (اللغوي) لكلمة "إيـﮕيو" عند فقهاء اللغة الأمازيغية سينتهي بالتأكيد إلى معنى آخر غير الفن. المعلومة على سبيل المثال ليست "تيـﮕويت" المعلومة فنانة ، ومنى ليست "تيـﮕويت" منى فنانة لكن هناك غيرهم بالتأكيد ممن تنطبق عليه هذه الصفة لماذا أقول ذلك لأن لدى المعلومة رسالة حضارية وإنسانية لا تقل شأنا في نبلها وقداستها عن الرسالة التي يحملها العلامة عبد الله بن بيه في الوقت الحالي وحملها آخرون قبله : إنها تقدم ثقافة شعبها وتراثه للعالم. إلا أن هناك ظاهرة سلبية أود الحديث عنها قليلا هي ظاهرة احتكار الفن في المجتمع الموريتاني وخاصة الموسيقى . على الرغم من أن المسؤولية في هذا المجال ليست مسؤولية الفنان بالدرجة الأولى لأنه قد يكون هو نفسه خاضعا لقدر مسبق يفرضه المجتمع عليه لكن رب ضارة نافعة إذ قد يصبح في مقدور الفنان من خلال ذلك الدور المفروض عليه بحكم العادات والتقاليد أن يقود المجتمع ذاته إن هو استطاع الاهتداء إلى الطريقة الصحيحة ومنها تطوير فنه من جهة والتحرر من بعض المسلكيات التي تكرس الصورة النمطية للفنان التقليدي في أذهان العامة وإن هو حاول بالإضافة إلى ذلك تجاوز حدود الوطنية والإقليمية إلى حدود العالمية كما فعلت المعلومة بنت الميداح ومنى بنت دندني . 2- ما يجب على المجتمع : المجتمع الموريتاني هو مجتمع تقليدي تلعب الثقافة والفنون فيه دورا وظيفيا بالمعنى السلبي للكلمة إذ تتحدد المكانة الاجتماعية فيه بالدور الذي يلعبه الفرد وهذه من جملة الأمور السلبية التي علينا أن نتخلص منها. إن جعل الإبداع خاضعا لشروط مسبقة لا دخل للفرد فيها هو قتل له علاوة على أنه ظلم للجميع وأمر غير مقبول ولا يمكن أن يستمر بهذه الطريقة وهو دليل على تخلف المجتمع وعجزه عن التطور. حتى أننا لنسمي المطرب شاعرا لأن نظرة المجتمع إليه هو أنه مجرد شاعر يمدح لأجل التكسب والاسترزاق ولا أثر هنا للإبداع والتنمية الثقافية أو الشخصية. لكن المفارقة هنا هي أن المجتمع لا يتحمل مسؤولية الوقائع المنسوبة إليه وخاصة النظرة الدونية للإبداع والمبدعين : فلا بد أن تضطلع المدرسة بدورها أيضا من خلال ترسيخ الثقافة الموسيقية وروح الإبداع لدى الناشئة . المسؤولية كذلك تقع على وسائل الإعلام ووسائل التعبير الثقافي كالسينما والمسرح وغيرهما في تغيير الصورة النمطية والنظرة الدونية إلى الفنان . كما تقع المسؤولية أيضا على دوائر الثقافة الأخرى من مثقفين وفقهاء للعمل على المؤاخاة بين الفنانين والفقهاء وجعلهم "أصدقاء" لأن الفقيه إذا كان مجددا فلن تختلف رسالته ولن تتصادم مع رسالة الفنان الملتزم المبدع. 3- ما يجب على الدولة : الدولة هي الراعي الأول للفن والثقافة وهي الحامي الأول لإبداعات الفنانين . ولكي تضطلع بذلك الدور على أحسن وجه يتعين عليها أن تقوم بما يلي : * نقل الفنون والإبداعات من الطبيعة إلى الثقافة ، ومن طور الهواية إلى طور العلم والدراية ، ومن طور الاستهلاك إلى طور الصناعة والتسويق وذلك في مات عدة منها التعليم والثقافة والإعلام: على مستوى التعليم الابتدائي لا بد من إدخال مادة الموسيقى في المناهج الدراسية وعلى مستوى التعليم العالي إنشاء معهد عالي للفنون الجميلة يحتضن هذه الإبداعات ويؤطرها في إطارها العلمي والفني الصحيح . المثال هو بعض الأعمال التي قدمت في ليالي رمضان وأخص بالذكر رائعة الفنانة المبدعة وسفيرة الأغنية الموريتانية بدون منازع الشيخة المعلومة بنت الميداح "المفرجة" للشاعر ابن النحوي الأندلسي والتي قدمت النسخة الموريتانية لهذه القصيدة والتي لا تقل في روعتها عن النسخ التي سبقتها في سياقنا المغاربي : النسخة المغربية من تلحين وأداء الفنان المعروف عبد الهادي بالخياط والنسخة الليبية من أداء الفنان حسين العريبي واللتين حظيتا باهتمام رسمي منقطع النظير على مستوى بلدانهم والتي سعت إلى تسويقها وترويجها عبر العالم وفي شبه المنطقة. الفرق هو أن النسخة الموريتانية أكثر جمالا وإتقانا بحسب شهادة بعض مثقفي تلك البلدان الذين حضروا تقديم النسخة الموريتانية للمرة الأولى هنا في انواكشوط. وفي الحقيقة فإن هذا الأمر هو عبارة عن حدث ثقافي كبير ما كان ليمر مرور الكرام لولا ضعف الذائقة الفنية لدينا من جهة وغياب الإطار الثقافي والعلمي الأكاديمي الذي يحتضن مثل تلك الإبداعات. أقول إن النسخة الموريتانية لقصيدة المفرجة أكثر جمالا وإتقانا من النسخ المغاربية الأخرى لأنها أنتجت بمجهودات شخصية وبوسائل مادية وفنية متواضعة : الهواية هي التي أنتجتها وليست المعرفة والدراية .إن إبداعات المعلومة وشقيقها عرفات ليست نتيجة لتقاليد علمية وفنية جامعية معينة مثلما هو الشأن في المغرب وليبيا. أتذكر أنني حضرت في بداية التسعينيات في تونس مسابقة للأغنية المغاربية وشاهدت احتفال الجمهور التونسي بطريقة جنونية بالأغاني التي قدمتها المعلومة في تلك المسابقة لا لشيء إلا لأنه جمهور يعشق الإبداع ويتمتع بذائقة فنية كبيرة لأن الموسيقى هناك تدرس في المدارس في مراحل التعليم الأساسي ولها مدارسها المتخصصة في التعليم العالي. لكن المعلومة ليست الضحية الوحيدة لانتمائها لهذه البلاد أتذكر أعلاما كبارا في مجال العلوم قديما وحديثا خطيئتهم الوحيدة هي أنهم أبناء جلدتنا : وأذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر العلامة الشيخ سيدي المختار الكنتي الذي تحدث رواد النهضة العربية عن عبقريته ونبوغه فكان بالفعل سابقا لزمانه بالنظريات التي كشف عنها في مجال علم الفلك على سبيل المثال في كتابه "نزهة الراوي وبغية الحاوي" نظريات لم يستوعبها حتى الآن الكثير من علمائنا وفقهائنا بعد مرور أكثر من مائتي سنة على وفاة ذلك العلم . أذكر كذلك على سبيل المثال لا الحصر العالم الرياضي الموريتاني المعاصر يحي ولد حامدٌ هؤلاء لو كانوا مصريين أو فرنسيين أو مغاربة لكانوا أعلاما دوليين. لا أسوق هذه الملاحظات للدعوة إلى الهجرة ولا للانتقاص لما تقوم به الدولة في مجال الثقافة والفنون خصوصا في السنوات الأخيرة خلال حكم الرئيس محمد ولد عبد العزيز وإنما هو توجيه ولفت للانتباه إلى ما هو أهم وما قيمة المثقف والأكاديمي إذا لم يكن ناقدا وموجها إلى ما هو أفضل. المقترح الأخير بالإضافة إلى المقترحين السابقين اللذين يخصان وزارتي التهذيب الوطني والتعليم العالي يخص وزارتي الثقافة والاتصال وإدارة التلفزيون الوطني (الموريتانية) هو أن تقدم هذه الأغنية (المفرجة) للفنانة المعلومة بنت الميداع وكذلك رائعة الشيخ محمد اليدالي من أداء الفنانة المبدعة منى بنت دندني وشقيقها الوليد - الذي أدخل إبداعات جديدة في آلة الغيثار وجعلها "آلة كاملة" بحسب شهادة الفنان المخضرم رئيس الجوق الوطني الحضرامي ولد الميداح الذي حضر تقديم الأغنية من طرف فرقة منى بنت دندني هو - في إطار حفل رسمي وبحضور رسمي وثقافي كبير ليلة عيد الفطر المبارك من طرف التلفزيون الرسمي (قناة الموريتانية) لأنها هي الجهة الأوْلى بإعلان هذا الحدث الثقافي الهام للعالم قبل أن تعلنه القنوات الخاصة أو القنوات الدولية. فإذا كان جيشنا قد قدم ويقدم في الوقت الحالي مثالا رائعا لهيبة الدولة في محيطها الإقليمي والدولي وكذلك فعلت دبلوماسيتنا خلال رئاسة الرئيس محمد ولد عبد العزيز للاتحاد الافريقي فقد آن الأوان أن تلعب سفارتنا الثقافية والفنية دورا مماثلا. وبالمناسبة فإنني أوجه التحية للعلامة عبد الله بن بيّه لما يقوم به من تمثيل مشرف لبلاده في المحافل العلمية الدولية وفي حوار الحضارات . لكن ولد بيّه وحده لا يكفي ونحن أحوج ما نكون إلى نشر رسالتنا الحضارية في أبعادها المتعددة في محيط يجهلنا فيه القريب قبل البعيد والصديق قبل العدو. لا بد أن يعرف العالم أن هذه البلاد التي أنتجت في الماضي أعلاما كبارا وسفارات علمية نشطة أنها اليوم قادرة على تقديم مثل تلك النماذج في مجال الثقافة والفنون.