من جميل ما غنى الفنان القدير المختار ولد الميداح المقطوعة الشعرية التالية لامحمد ولد أحمديوره:
مَعَـاهِــدُ الْمَيْمُونِ أَقْوَتْ ذَرَكْ ** إِنْ لَــمْ تُـبَكِّـهَـــا فَـمَـا أَصْــبَــــرَكْ
أَضْـحَـتْ لِـسِـيـدَانِ الْفَلَا مَأْلَفًا ** وَكُــلُّ حَـــرْثٍ مِـثْـــلُ نُـونِ عَـــرَكْ
مِـنْ بَـعْـدِمَـا كَـانَــتْ بِـهَــا خُـرَّدٌ ** يَصْطَدْنَنَا مِثْلَ اصْطِيَادِ الشَّرَكْ
لَا طَـارِبٌ فِـيـهَـا وَلَا مُـطْــــرِبٌ ** سُـبْـحَــانَـكَ اللَّهُـمَّ، مَـا أَقْــــدَرَكْ!
يروى أن هذه الأبيات مثلت الانطلاقة الشعرية الأولى لامحمد، وأن مرابطه عندما سمعها طرب وقال: “أذع ثم أذع”.
وعلق عليها أحد الشعراء منوها: ” سُـبْـحَــانَـكَ اللَّهُـمَّ، مَـا أَشْــعَـرَكْ!”
وليس من السهل اكتشاف فنيات نصوص مكتنزة تتجاور فيها إحالات من المدونتين الفصحى والعامية، وأمشاج من نصوص شتى مختلفة المشارب، وذلك دأب امحمد ولد أحمد يوره.
فلئن سلس القياد للراوي، وانسابت الأبيات رائجة على الألسن، فإن إعادة النظر في تشكلها اللغوي تنبئ عن احترافية في صناعة الشعر وتميز في صياغته.
يأتي ظاهر النص وقوفا على مرابع الميمون وتباكيا على ما آلت إليه معاهده؛ وقصة امحمد مع الميمون قصة جميلة، وعهد لم يغيره الحدثان، بدأت بالألفة والحب، وانتهت بالاحتضان الأبدي:
مَا تَگْـلَعْ شِي حَدْ امِّنْ هُونْ @@ انْـفِـدْ مِغْـيَه وِاگْــرَظْ مِنْ دُونْ
عِلْبْ الْمَارِدْ وِاكْـرِدْ لِعْيُونْ @@ إِلَيْـنْ امْـنَـيْـنْ الْعِـلْــبْ ارْگَـــاگْ
وِِيــلَا جَ وَاطِي فِالْمَـيْـمُــونْ@@ وِافْكَـيْـرِنَـــــاتْ ؤُمَـا يِـنْـظَــــاگْ
امَّـلِّي مَـا تَگْــلَــعْ شِي كُــونْ@@ أللِّي تَگْـــلَـعْ شِي مِنْ لَـخْــلَاگْ
فالميمون حاضر متواتر في اغن امحمد وشعره، ولعله كلمة السر في هذا النص، حيث استهل الشاعر بذكر معاهده، وجاءت كل الأبيات وصفا دقيقا وتتبعا لتحول المكان، ليصل الشاعر إلى العبرة والتسليم بالفناء الذي لا مرد له.
أمر ما جعل الشاعر لا يصبر عن البكاء؛ فالتحول كان مريعا وشرسا، هذه المنازل التي غادرها ساكنوها، وأقفرت مرابعها، استمرأتها السيدان -وهي أشرس أنواع الذئاب- أضحت عبرة لمعتبر، وقديما قال الشنفرى الصعلوك متحدثا عن أهل صحبته في الخلاء:
وَلِي دُونَكُـمْ أَهْـلُونَ؛ سِيـدٌ عَمَلَّسٌ ** وَأَرْقَـطُ زُهْـلُولٌ وَعَـرْفَــاءُ جَــيْــأَلُ
هُمُ الْأَهْلُ لَا مُسْتَوْدَعُ السِّـرِّ ذَائِعٌ ** لَدَيْهِمْ، وَلَا الْجَانِي بِمَا جَرَّ يُخْذَلُ
والغريب هو هذا العدول لدى امحمد عن مألوف الشعراء، فكثيرا ما يجعلون الديار مرتعا للمها والظباء، وهي مجانسة طريفة يخلقها الشاعر بين من سكنت الربوع من الأوانس ومن خلفتها فيها من الحيوانات الجميلة والمسالمة، مما يخفف من الإحساس بالوحشة، ويجد الواقف على المرابع فيه سلوانا وعزاء عن الراحلين كما عبر زهير بن أبي سلمى عن ذلك في معلقته المعروفة:
وَدَارٌ لَـهَـــا بِالــرَّقْـمَـتَـيْـــنِ كَــأَنَّـهَــا ** مَـرَاجِـيعُ وَشْمٍ فِي نَوَاشِـرِ مِعْصَمِ
بِهَا الْعِينُ وَالْآرَامُ يَمْشِينَ خِلْسَةً ** وَأَطْلَاؤُهَـا يَنْـهَضْـنَ مِنْ كُـلِّ مَجْثَمِ
إنه منظر طبيعي مشرق وناعم، رغم خلاء الديار، ونزوح ذويها، تجد فيه العين متعة والقلب فسحة.
ولكن الشاعر امحمد كان في عدوله موفقا إلى حد بعيد للتعبير عن الوحشة والخوف اللذين رانا على المكان، فبعد أن كان مرتعا للأوانس الخرد، أصبح مجالا لسيدان الفلا : (أَضْـحَـتْ لِـسِـيـدَانِ الْفَلَا مَأْلَفًا) وهي صورة مخيفة مرعبة، وباعثة على التحسر والبكاء أكثر على هذه المرابع التي لم يعد زائرها يأمن على نفسه غائلة الافتراس.
جاء تشكيل الصورة في النص معبرا ومتجذرا في التربة المحلية؛ فتشبيه الأحراث بحرف أبجدي مركب الاسم من العربية والصنهاجية: (انَّنْ أَعْرَكْ)، هو تشبيه عميق الدلالة، وبديع الاختيار؛ فتلك النون التي تكتب على شكل نصف دائرة بالمداد الأسود، هي المماثل البصري للحرث الذي بلي نصفه وأصبح يشاكل الحرف في لونه ورسمه: (وَكُــلُّ حَـــرْثٍ مِـثْـــلُ نُـونِ عَـــرَكْ).
ويأتي تشبيهه السقوط في حبائل الحسان بتعبير جميل وجديد ذي مرجعية من عالم القنص والصيد:
(مِـنْ بَـعْـدِمَـا كَـانَــتْ بِـهَــا خُـرَّدٌ ** يَصْطَدْنَنَا مِثْلَ اصْطِيَادِ الشَّرَكْ)
إنه اصطياد جميل ومأمون العاقبة، تهفو إليه النفس وتحن، عكسا لمن تتناوشه سيدان الفلا في مكان قفر.
وتنتهي الأبيات تلك النهاية الحزينة والتي هيأت لها الأبيات السابقة:
(لَا طَـــارِبٌ بِـهَــا وَلَا مُـطْــرِبٌ ** سُـبْـحَــانَكَ اللَّهُـمَّ، مَـا أَقْدَرَكْ!)
إنه تحول موجع لهذه الديار التي عاش فيها الشاعر أيام لهو وهناء، ووصل ورخاء، والتي أصبحت بالنسبة له مثارا للوعة والعناء.
والخاتمة جاءت محملة بالتسليم المطلق بقدرة الله -عز وجل- ومذعنة لما يقتضيه ذلك كما يقول الشاعر المخضرم لبيد بن أبي ربيعة:
فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإلــــــهُ أَمْ كَـيْـفَ يَجْـحَـدُهُ الْجَاحِـدُ ؟!
وَفِي كُـلِّ شَـيْءٍ لَـهُ آيَـــةٌ ** تَــــدُلُّ عَـــلَى أَنَّــــهُ وَاحِــــــدُ
هي وقفة اعتبار وتسليم مفعمة بالإيمان العميق والخضوع للقضاء والقدر، جاءت ختاما مناسبا للفقد الذي ملأ كيان الشاعر .
لقد عاين الشاعر المكان في لحظة زمنية آنية: (مَعَاهِدُ الْمَيْمُونِ أَقْوَتْ ذَرَكْ)؛ ونقل الحالة التي أحس وقت تشكل المقطوعة في ذهنه، بعدسة المصور المحترف، مبرزا حالة التحول والتبدل التي عرفها المكان، ولقد ترجمت القافية المقيدة ذلك الحصار النفسي الذي فرضه المشهد على الشاعر، وما كبح فيه من ذكريات جميلة كان لها أن تمتد لو لم يحاصرها التحول المهول، والسكونية المطلقة.