تغريظ العمل: خطاب وادان في بعده الآخر . . . محمد ولد مكحله / أستاذ جامعي

أربعاء, 04/20/2022 - 13:17

لا يختلف اثنان في قيمة العمل و"بذل الجهد" )l’effort( في بناء الأمم والحضارات، وحيازة الغلبة ضمن الصراع المرير من أجل البقاء، حيث لا مكان للكسالى والنوام حين يكون آخرون مرهقون يتصببون عرقا من شدة الجهد المبذول لقهر الطبيعة و جعلها تستجيب لمتطلبات الحياة. فالعمل والجهد اللذين نعنيهما هنا ليسا وهمين نظريين كما هو الحال عند الفيلسوف الألماني، حيث عملية تحول مركز السيطرة/التبعية من السيد إلي العبد تتم برمتها على مستوى الذهن والتوهم، بعيدا عن الواقع المعيش الذي يكرس خطا فاصلا بين الكسول والعامل، بين الذاهب والقاعد. فالمطلوب ليس تحرير العبد توهما ولا استعباد السيد توهما، بل المطلوب هو أن ينخرط الاثنان في مسار العمل
وبذل الجهد المضنى، ولكن المنتج في نهاية المطاف والمؤسس للتقدم والازدهار.
إن ما يمر به العالم منذ بعض الوقت، من وضعيات غير مسبوقة من حيث مآلاتها وما ينجر عنها من تأثيرات عابرة للحدود (جائحة كوفيد والحرب في أوكرانيا)، وما يخبئ المستقبل من وضعيات يستحيل التنبؤ بها، يجعل الملجأ الوحيد بالنسبة للشعوب والدول هو الاعتماد على الذات من خلال إعادة الاعتبار لقيمة العمل وترسيخ بذل الجهد. فالمعطى الجديد هو أننا أصبحنا، في مثل هذه الوضعيات، نستيقظ على تحديات لا حول ولا قوة للجميع أمامها، سواء من كان يعتبر قويا ومن كان يصنف ضعيفا. نتذكر أنه بالنسبة لذروة جائحة كوفيد مثلا، فإن الحركة التي هي الحياة (والحياة حركة بطبيعة الحال) قد توقفت في البر والبحر والجو، يستوي في ذلك من يملكون السيارات والسفن والطائرات ومن لا يملكونها. أما بالنسبة للحرب الدائرة الآن في أوروبا الشرقية، فقد يتساوى في ظل انعكاساتها، من يملك المال ومن لا يملكه، في صعوبة الحصول على الخبز والبنزين والغاز. فهذه الضرورات الحياتية أصبحت اليوم هاجسا للدول الغنية كما الفقيرة. هو إذن تكافؤ الفرص في
تضاؤل الفرص للجميع.
من هنا، يقاس ما لخطاب وادان التاريخي ـ وقبله خطاب الاستقلال، وبعد ذلك إطلالة المدرسة الوطنية للإدارة والصحافة والقضاء الموفقة ولقاء الجالية في اسبانيا ولقاء الفاعلين الاقتصاديين ـ من صدى كبير ووقع منقطع النظير في الآذان، حيث تلقفته الأسماع كل الأسماع، وتناولته الأقلام ونال ما نال من الإشادة والاستحسان. فهي خطابات بينت بشكل واضح لا لبس فيه معالم الطريق لتوجه عام للإصلاح ومسعى حقيقي للإقلاع، كان إعلان الترشح سنة 2019 قد سطر خطوطه العريضة حينها. فإذا كان خطاب وادان يتنزل في رمزية كبيرة تتعلق بالمدن التاريخية أو مدائن التراث، فإن رمزية هذه المدن ظلت عالقة في الذهنية الموريتانية بوصفها رمزية "العلم" ورمزية إنتاج وتوزيع/نشر المعرفة (أي رمزية الجهد الذهني)، تلكم الرمزية التي صاغت، باعتزاز، هويتنا الحضارية الشنقيطية، ورسخت سمعتنا الطيبة عبر الأمصار. غير أن هذه المدن تعكس في نفس الوقت، في شموخها وصمودها، رمزية أخرى هي رمزية العمل والجهد العضلي المفضي إلى الإنتاجية المادية. فنحن عندما نطل على هذه المدائن، تتراءي لنا في الذاكرة، الصورة المتكاملة

والناصعة للشيخ العالم والمحظرة والطلاب والكتب، والتي تعكس القيمة العلمية في أبهى تجلياتها، لكن تغيب عن الذاكرة قيمة العمل أو الجهد الجبار الذي استثمر آنذاك في "قهر الظروف الطبيعية القاسية" ليتسنى للرمزية العلمية أن تكون أصلا (التشييد العمراني ومتطلباته وتوفير مواده، وكذلك الزراعة والتنمية، بوصف ذلك كله مقومات ما كان للمدن أن تتأسس وتقاوم عاديات الزمن بدونها).
فالبعد الآخر الذي أردنا لفت الانتباه إليه في خطاب وادان يتمثل في استبصار قيمة العمل وقيمة بذل الجهد لقهر الطبيعة وتشييد تلك المعالم التي نعتز بها اليوم كهوية ثقافية وحضارية وتاريخية. إننا عندما نتأمل أطلال المدينة القديمة وشوارعها وكل تلك الآثار الصامدة، نستبصر من خلالها ونستحضر العلماء الأجلاء والمساجد والمحاظر والمكتبات التي كانت هنا، لكننا في نفس الوقت، وهنا مربط الفرس في الخطاب، نستحضر من خلال الآثار المادية الشاهدة، قوما كان العمل بالنسبة لهم قيمة إنسانية تضاهي القيمة المعرفية. فما أحوجنا اليوم في هذا العالم المليء بالتحديات الوجودية والذي يلف الغموض المطبق أفقه وغده، أن نتواصل من جديد مع ذلك الجانب من ماضينا المشرق الحاضن لقيمة العمل والجهد والكدح والتحمل، وهو ما يتطلب "تطهير الموروث الثقافي" من استهجان العمل بدل تمجيده واعتباره قيمة إنسانية ناظمة لمسار الحياة الكريمة. فلطالما استدللنا بالآيات والأحاديث وسير الأنبياء والرسل على ضرورة العمل، وظل الجانب البائد من عقلياتنا يمانع ويكابر. أما اليوم وفي ظل هذه المتغيرات الكونية المتلاحقة، فنحن أمام حتمية أن نشمر عن السواعد
ونعمل لنبقى، أو نتكاسل فنختفي.