خطاب الى مؤتمر طاولة طوكيو المستديرة للسلام:ما بعد الحرب ونحو المصالحة

جمعة, 09/23/2022 - 20:13

خطاب الى مؤتمر طاولة طوكيو المستديرة للسلام:ما بعد الحرب ونحو المصالحة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد النبي الخاتم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين

كلمة في مؤتمر أديان من أجل السلام

في الفترة من 20 إلى 24 سبتمبر في طوكيو باليابان

سعادة الدكتورة عزة كرم، الأمين العام لمنظمة أديان من أجل السلام

القس الدكتور شينوهارا، الأمين العام لمنظمة أديان من أجل السلام آسيا وأديان من أجل السلام اليابان

أصحاب المعالي والسعادة، أصحاب السماحة والفضيلة،

أصحاب الغبطة والنيافة،

أيها المشاركون كل باسمه وجميل وسمه،

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،

يطيب لي بادئ ذي بدء أن أتوجّه إلى منظمة “أديان من أجل السلام” بجزيل الشكر على الدعوة لهذا اللقاء الهامّ.

مع الاعتذار لعدم التمكن من الحضور معكم مباشرة لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، واسمحوا لي بين يدي هذه الجلسة أن أقدم بعض الأفكار السّريعة التي أرجو أن تكون مساهمة في التفكير في هذا الموضوع الملح ومنطلقا للحوار حوله.

أيها الأخوة والأخوات،

يأتي مؤتمرنا هذا في وضع دولي مضطرب يزيد من مستوى التحديات التي تواجه البشرية، فمن تحديات الأزمة الصحية التي لا تزال تلقي بظلالها على أجزاء من العالم إلى تحديات الاقتصاد والتضخم الذي تشهده الأسواق العالمية إلى تحدي الأمن وخطر الحروب والتوترات الحاصلة في مناطق من العالم.

ولقد أكدت الأزمات الراهنة والتوترات الحاصلة أن السلم كل لا يتجزأ وأن أي إخلال به ستنعكس آثاره على البشرية في كل مكان فالحروب في هذا الزمان لا تقف آثارَها عند الحدودِ الجغرافية لميدان المعركة بل تتعداها إلى باقي أصقاع العالم.

كما بينت الحروب الدائرة حاليا في أجزاء من العالم أن شياطين الحروب ما تزال كامنة في النفوس ولذا فإن من مسؤولية القيادات الدينية كما رجال السياسة معالجة هذه الأفكار في النفوس والأذهان قبل أن تخرج إلى العيان.

إن الوعي بهذه الضرورة هو الذي يوجه لقاءنا اليوم، حيث نستشعر جميعا الحاجة إلى أن تتكامل أدوارنا، انطلاقا من مواقعنا ودوائر تأثيرنا، لنسهم في استعادة الضمير الأخلاقي للإنسانية، الذي يعيد الفاعلية لقيم الرحمة والغوث ومعاني التعاون والإحسان.

ولاشك أن درجة التشابك بين مصائر الشعوب وأوضاعها في سياق العولمة المعاصرة فرضت الشعور الواعي بحقيقة الانتماء للبشرية كعائلة كبرى وللأرض كوطن أشمل، وهو ما يسميه البعض مواطنة كونية، المطلوب التحقّق بها من خلال تجسيد روح ركاب السفينة التي ضرب بها النبي صلى الله عليه وسلم المثل، روح ركاب السفينة الذين يؤمنون بالمسؤولية المشتركة وبالحرية المسؤولة المرشّدة وبواجب التّضامن والتعاون.

بروح ركاب السفينة ننشد عالما تكون فيه ثمرات العقول مبذولة لفائدة الجميع فلا يستأثر بها القوي أو يحتكرها الغني، عالما تتنافس فيه الأمم في الخير، وتستبق فيه الدول في تقديم الضيافة التي تستند إلى الكرامة الإنسانية، والتي تجعلك ترى الغريب قريبا، تراه أخا وصديقا، تقابله بحسن الظن، تؤويه إلى بيتك وتبذل له البر والإحسان، من غير سابق معرفة بينكما.

أيها الحضور الكريم،

لقد برز دور المجتمعات الدينية في العقود الأخيرة من خلال عملها الدؤوب لإيجاد فرص للسلام وذلك من خلال جهود نظرية وعملية. أما النظري منها فيتعلق بتأكيد دعوة الدين إلى السلام وأن الدين في أصله دعوة للسلم، وهذا يستبطن الرد على النظريات التي تعتبر أن السلام لايمكن أن يكون دائما ومستمرا الا باستبعاد الدين من الحياة العامة وتربط بشكل تلقائي بين الدين والعنف، ليكون ذلك أساسا للدعوة إلى المفاصلة بين الدين والدنيا كحلٍّ وحيد لإرساء أسباب التسامح والتعايش في المجتمع.

لكن الحروب في القرن الأخير على الأقل وبخاصة الحربين العالمية الأولى والثانية لم تكن دينية أو من منطلق ديني، بل كانت حروبا استراتيجية، حروب نفوذ تعيد توزيع المجالات والفضاءات وترسم خرائط الموارد وتقسم الأسواق، وتحدد طرائق المبادلات والمواصلات.

وهكذا قامت القيادات الدينية من مختلف الأديان بجهود لتبرهن على أن الدين قوة سلام، من خلال العودة إلى نصوصهم المقدسة ليستثيروها وإلى تراثهم ليستمدوا منه الأسس المتينة للتسامح والتعايش ويستلهموا النماذج المضيئة التي يسهم إحياؤها في إرساء قيم الخير والسلام في نفوس معتنقي الديانات، لأنّه بالرجوع إلى النصوص وإلى التأويل المناسب والمقارب يمكننا التصدي لمروجي الكراهية والعنف.

كما انتهضت هذه القيادات في الآن نفسه للكشف عن المشتركات بينها لتستبعد الحروب والصدام فيما بينها. تلك المشتركات التي تصون كرامة الإنسان وترفع من شأنه، من خلال العناية بما نسمّيه في الإسلام بالكليات الخمس، وهي الدين والحياة والعقل والملكية والعائلة، والتي نعتبر أنها هي أساس المشترك الديني بين كل الشرائع والملل، فجميعها جاءت بحفظها ورعايتها.

كما نشترك على مستوى أشمل مع سائر البشرية في المشترك الإنساني الذي هو القيم الكونية التي لا تختلف فيها العقول ولا تتأثر بتغيّر الزمان أو محددات المكان، أو نوازع الإنسان، إنها الحقوق الطبيعية الفطرية التي يرثها كل إنسان بفضل وجوده، “وهي حقوق إلهية المصدر ممنوحة للمؤمن وغير المؤمن”.

و في هذا السياق أصدرت وثائق لها وزنها. وهي مواثيق ووثائق تقوم على تشجيع مبادئ الكرامة الإنسانية، كما تدعو في الوقت نفسه إلى مبادئ التسامح والسلم والرحمة والتضامن، فتؤسس بذلك لنموذج متوازن من التسامح المهذب والحرية المسؤولة والمواطنة الإيجابية والاقتصاد الإيجابي المتضامن. ومن ذلك على سبيل المثال وثيقة الأخوة الإنسانية ووثيقة كلمة سواء ووثيقة مكة المكرمة وكذلك الوثائق التي أصدرناها في منتدى ابوظبي للسلم كوثيقة حلف الفضول (٢٠١٩) وإعلانات مراكش (٢٠١٦) وواشنطن (٢٠١٨) وأبوظبي (٢٠٢١).

أيها السادة الأجلاء،

إن الانتقال بهذه المبادئ من حيز التنظير إلى واقع التجسيد أمر ممكن ومطلوب، بحيث لا تكون هذه الوثائق مجرد مبادئ نظرية مبتوتة الصلة بالواقع، لا فاعلية لها، بل يجب العمل على ترجمتها وبلورتها في مناهج عملية وبرامج تطبيقية، تتنزّل في المدارس تعليما للناس، وفي المعابد تعاليم للمؤمنين، وفي ساحات الصراع وميادين النزاع، طمأنينة تحلُّ في النفوس، وأملا يعمر القلوب.

وقد تحقق شيء من ذلك حيث وصلت بعض هذه الوثائق والمبادرات إلى صناع القرار وتبنتها الدول فانتقلت من إطار الأفكار إلى ميدان العمل والتطبيق.

وإن مؤتمركم اليوم مدعو لمتابعة النظر في أفضل السبل لتفعيل جهود القيادات الدينية والخروج بخطوات عملية لتحقيق ذلك.

وفي سياق السلم، أصبحت دولتنا -الإمارات العربية المتحدة- بقيادة صاحب السمو رئيس الدولة الشيخ محمد بن زايد حفظه الله، مثابة للسلم ومأوى لمريدي الخير، حيث احتضنت وثائق ومبادرات الحوار والسلام وكانت أول دولة تنشيء وزارة خاصة (بالتسامح والتعايش) بل جعلت قيمة السلم احدى المبادئ العشر الرئيسية لاستراتيجية الدولة في الخمسين سنة القادمة.

وختاماً أرجو أن يستمر إسهام القيادات الدينية في نشر السلام والوئام في العالم أجمع، متمنيا لهذا المؤتمر النجاح والتوفيق.