الإمام محمد ولد اتجاني يكتب /؟خطبة الفساد والافساد

أحد, 06/04/2023 - 22:38

خطبة
الفساد والافساد
إنّ الحمد لله ...
أما بعد عبادَ الله! فإن اللهَ حرم الضررَ والضِّرارَ، والفسادَ والإفسادَ، والله لا يحبُّ الفسادَ، ولا يصلح عمل المفسدين. والسعيُ في الأرض بالفسادِ خصلةٌ بغيضةٌ مرذولةٌ من خصالِ اليهود، قال الله فيهم: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}. والفسادُ في الأرضِ -أيها الناس- درجات ٌوأنواع، وكلما كان الفسادُ أكثرَ انتشاراً وتعدِّياً؛ كلما كان أقبحَ وآثم، و (وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً، كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)[م]، لذلك فإنه (لاَ تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ)[ق]. أيها المسلمون! ألا وإنّ أعظمَ الفسادِ وأقبحَه الفسادُ في الأديانِ، فإنه لا أفسدَ من الإلحادِ والكفرِ، ولا أشنعَ من النفاقِ والزندقةِ، فأعظمُ المفسدين من يشكك الناسَ في دينِهم، وَيُعَلِّمُ الجهالَ والمغفلين الطعنَ في الشريعةِ وأحكامِها، ويعملُ على انحرافِ الناشئةِ والشبابِ بنشرِ الفسادِ الاعتقاديِّ والأفكارِ الهدامةِ، ومنه الطعن في السنةِ النبويةِ، واعتقادُ أنها غيرُ نافعةٍ ولا مغنيةٍ ولا مجديةٍ، ذلك هو الضلال المبين، قال الله في المنافقين: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}، ومن الفسادِ الدينيِّ نشرُ المخالفاتِ والمعاصي وإظهارُها، نشرُ العاداتِ السيئةِ، والأخلاقِ الرديئةِ، والتشجيعُ على التمردِ على الأخلاق باسم التحرر، وإشاعةُ الفواحشِ والمنكراتِ، ومنه ترويجُ المخدرات، والتشجيعُ أو التسامحُ مع تبرجِ النساء، وغيرُها عافانا الله جميعاً، فالذنوبُ والسيئاتُ -أيها الناس- فسادٌ في الأرض وإفساد، قال الله -تعالى-: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، أي بسببِ ما كسبوا من الذنوبِ والمعاصي، فهي سببُ الخراب، فإنه لا عمارَ ولا صلاحَ مع فسادِ الأديان، ولا قيمةَ للحضارةِ الماديةِ والعِمرانِ مع فسادِ الأديانِ، وإنما تخربُ الدنيا ويأذنُ اللهُ بنهايتِها وإقامةِ القيامةِ عندما لا يُذْكَـرُ اسمٌ للهِ في الأرض، وذلك غايةُ الخرابِ والفسادِ، وفي الصحيح (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ: اللهُ، اللهُ)[م]، فإذا لم يذكرِ اللهُ في الأرض فعلامَ تبقى هذه الدنيا؟! ومن الفسادِ المنكرِ الشنيعِ إفسادُ ذاتُ البينِ، (وَفَسَادُ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ)[د]، وسماها الحالقةَ لأنها تحلق الدِّينَ، من أجل ذلك حرمت الشريعةُ كلَّ ما من شأنه إيقاعُ الفسادِ والعداوةِ بين المسلمين؛ ومنه تحريمُ الخروجِ بالسلاحِ على الحكامِ وإن جاروا وظلموا ما داموا مسلمين، من أجلِ الفسادِ الكبيرِ والشرِ المستطيرِ مِنْ جَرَّاءِ ذلك، ومن أجل ذلك -أيضاً- كانت النميمة من المحرمات الكبائر لما فيها من فسادِ ذاتِ البينِ، وإنما جاء في السحر والسحرة ما جاء لعظيم فسادِهم وإفسادِهم، والله المستعان. ومن الفسادِ العامِّ المتعدِّي الفسادُ الأمنيُّ، بنشر الفتنِ، ودعمِ الإرهابِ، وترويعِ الناسِ، وسفكِ دمائِهم، لذلك جاءت الشريعةُ بالعقوبةِ الغليظةِ الشديدةِ على الحرابةِ، وهم قطاعُ الطرق، {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)}، لذلك -أيضا- جاء في الخوارج ما جاء تحذيراً منهم، وتحريضاً على حربِهم وجهادِهم، حتى كانوا (شَرّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ)[م]. ومن أنواع الفسادِ الفسادُ الماليُّ، وذلك بأنواعِ المعاملاتِ المحرمةِ؛ وعلى رأسِها الربا والرَّشوةُ وأكلُ مالِ اليتيمِ والاختلاسُ والْغَصْبُ والنهبُ والغشُّ والاستيلاءُ على ممتلكاتِ الناسِ وغيرُها، وكلُّها فسادٌ وخرابٌ للاقتصادِ واستغلالٌ لضعفِ الضعيفِ وأكلٌ للمالِ للباطلِ. ومن الفسادِ العامِّ المتعدي الإفسادُ على الناسِ في أرزاقِهم ومعايِشِهم، ومن أخطرِه التعدي على منابعِ المياهِ ومصادرِها، فإنّ ذلك يستوجبُ اللعنَ على المفسدين ، ففي الحديث: (اتَّقُوا الْمَلَاعِنَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَازَ فِي الْمَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ)[د]، والمواردُ هي مواردُ المياه، والمقصودُ هنا إفسادُها على الناسِ بقضاءِ الحاجةِ فيها، وذلك يجلبُ لعنةَ الناسِ على مَنْ فعل ذلك، لذلك سماها في الحديث "مَلَاعِنَ"، هذا لتعلموا -عبادَ الله- أن العبثَ بأنابيبِ المياهِ، العامةِ منها خصوصاً؛ كأنابيبِ النهر الصناعي بالوصلاتِ المفسدة أو بالتخريبِ المحضِ فسادٌ خطير، وشرٌّ كبيرٌ، وهذا النوع من الفساد يضيق على الناس حياتهم، ويكلف الدولة المال الكثير. {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}. أقول هذا ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ...
أما بعد:
فاجتنبوا الفسادَ -أيها المؤمنون- وحاربوه واحذروه وحذِّروا منه ومن أهله. وكونوا من أهلِ الصلاح والإصلاح، اجتنبوا الشركَ والبدعَ والمعاصيَ فكلُّها فساد، وحافظوا على أوطانكِم وبلادِكم {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}، وأعينوا أهلَ الصلاحِ والإصلاحِ، تعاونوا معهم على ما فيه الخيرُ والصلاحُ، وعلى محاربةِ الفسادِ والمفسدين. ولولا من يقيمه اللهُ من عبادِه للنهيِ عن الفسادِ في الأرضِ لكان الخلقُ في شأنٍ آخر، {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)}. ومن التعاونِ مع المصلحين قَبُولُ النصيحةِ، والاستجابةُ لداعي الإصلاح، وتركُ العناِد والكِبْرِ، وإياك أن تكون مع فسادِك مزوراً للحقائق، تسمي الفسادَ صلاحاً، والإفسادَ إصلاحاً، لتكونَ كالمنافقين الذين قال اللهُ فيهم: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)}. وإياك والكبرَ والعنادَ إذا نُصِحْتَ بتركِ الفسادِ، قال الله -سبحانه-: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)}. نعوذ بالله من غضبه ومقته وسخطه، ونعوذ به من الفساد وأهله، ونسأله -سبحانه- أن يجعلنا صالحين مصلحين، هُداةً مهديين