كان الوقت مساء وإضاءة المكان حادة جدا، لدرجة تهدد بإصابة أمثالي بالصداع النصفي.
لي مع المصابيح علاقة عجيبة ومزعجة؛ لا أستطيع القراءة إلا في كنف مصباح شديد السطوع، وإذا وقع الضوء على رأسي أصاب بالصداع.!
المكان أربعة جدران من خشب مغطاة بالزنك على سطح منزل مضغوط قرب "مرصة لحموم" والزمان أواسط شهر مايو على ما أذكر، يمتزج الحر بشيء بقليل من الرطوبة وتعجن الأدخنة والغبار بقية الخلطة العليلة.
دخل الرجل نصف الأصلع، ولكن بقصة لحية مميزة، سلم بصوت فوق المسموع، ومسح عارضيه بيد واحدة مبتسما. كان البشر قد تملكنا، وامتلأت القاعد المكتظة حبورا..
استدار بسرعة، وبحركة فيها الكثير من التلقائية والصرامة، واضح أنه لا يفعلها لأول مرة.، وخط بطبشور أبيض: "الكندي" دخولا في الموضوع من غير مقدمات، وبدأ بفصاحة وانسياب أفكار، وبنسقية منضبطة في شرح برهان الخلق.
كانت السنة الدراسية قد آذنت بانصرام، ودورة التقوية التي تنظمها جمعية الحكمة للأصالة وإحياء التراث، مجرد محاولة لتلخيص البرنامج، والتذكير بمفرداته.
لم يكن محمد المصطفى ولد گليب نكرة بالنسبة لطلاب الباكلوريا، فأهم الملخصات المتداولة لمادة الفلسفة ممهورة، أو مصدرة باسمه، وكل المتحدثين عن المقررات يلهجون باسمه. كانت صلاة العشاء تتخلل الدرس، ولأننا في جمعية دعوية، ولأن أستاذنا محمد المصطفى، كنا نقطع الدرس لصلاة العشاء في المسجد القريب جدا.
جبلت على الأسئلة، وفتحت رحابة صدر محمد المصطفى وابتسامته بابا أقرب إلى الجدل التعليمي منه إلى أي شيء آخر. لم أقتنع ببرهان الخلق كما قدمه الكندي، ولا شربت عقول الفارابي العشرة، واستضعفت حجج ابن رشد في ذبه عن التهافت. انحزت إلى الإمام الغزالي في نقاشه للإلاهيات، وكنت فقهت من الإمام ببها، بواسطة الشيخ عدود رحمهم الله، أن ذلك من مواقف العقول لا من مجاريها.
كنت أقطع على الأستاذ محمد المصطفى خلوته في الطريق إلى المسجد ذهابا وعودا بالاستمرار فيما يبدؤه معنا تحت الزنك والإضاءة الحادة، وأتحاشى الاقتراب منها حتى لا تؤذيه بقايا رائحة الدخان، وكان يدنيني بيده فيتملكني الخجل، وربما ساعد ذلك الإدناء والحرج في إنهاء علاقتي بالدخان من ذلك العهد.
يضحك الأستاذ محمد المصطفى كثيرا من جدالي، ويظهر انحيازا إلى البراهين التي أشاغب في بهوها بأسئلة غير عميقة ولا مؤسسة. كان يتحمل فيض جهلي بأريحية مبتسمة. لم تطل أيامه معنا، خمس حصص لا تنسى، حفرت في ذهني أسئلة عميقة عن مدلول كلمة "العالم" كما نتداولها؛ فلم لا يسمى ولد گليب عالما؟ ومن هم العلماء إن لم يكن محمد المصطفى ضمنهم؟! يمنع الجبن الفكري والمحافظة من طرح كثير من أسئلتنا.
مرت أيام البكلوريا، وتوقعت أن أجد أمامي الأستاذ في قاعة الدرس بالجامعة، لم أكن أنوي المتابعة في قسم الفلسفة، ولكني توقعت ولد گليب من بين أساتذتها.
لم نلتق إلا لماما في الندوات، أو في هامش بعض الأنشطة الثقافية، وكان هو مبتسما فخورا بطلابه حين يلقاهم، أو حين يذكرون. أردت مرة أن أتدخل بعده في ندوة فقلت مفتتحا إنما كنت أريد قوله جاء في مداخلة أستاذي محمد المصطفى فاستدرك علي أحد الحاضرين، فابتسم الأستاذ، كأنه أراد أن يقول "ذاك الا سابگ ش".
جمعني هذا الفضاء بالأستاذ فرأيت الكرام يفخرون بالتتلمذ عليه، وما من نابه إلا وله حكاية مع أخلاق هذا العالم الأبي، رأيته ينثر درره في هذا الفضاء متواريا في ثوب مدون متواضع يشارك دون تشدق، ويناقش بالتواضع الذي تقبل به جهالتي قبل ٢٠ عاما. يقف مع ما يراه حقا، يختلف بوقار ويناقش "بعلم جم وذكاء وقاد". فليهنأك الوقار والعز غير المدافع، وليحطك الله بعناية تحفظ عليك العلم والخلق الكريم، وليمتعنا بك دهرا.
واعذرنا فهذا المجتمع يعبر رحلة انتقال نسأل الله أن تؤدي به إلى صلاح حال.
من صفحة الكاتب على فيس بوك