لم تتضرر صورة الولايات المتحدة الأمريكية لدى الرأي العام العربى والإسلامى منذ تأسيسها مثل ماتتضرر الآن، بفعل الدعم المطلق لدولة الإحتلال الإسرائيلى، وانخراطها – بحسب العديد من التقارير الإعلامية- فى القتال إلى جانب القوات الإسرائلية، لتنتقل من صورة حاول أسلاف الأمركيين رسمها (الدولة الحالمة بغد أفضل لكل شعوب العالم) إلى كيان يقاتل جنوده من أجل التمكين للإحتلال المفروض بقوة الحديد والنار داخل جسم غريب عليه بالمرة، ولايبالى رئيسه بأرقام الضحايا من الأطفال والنساء والشيوخ، بل وينخرط فى حرب إبادة مفتوحة عبر قتل الفلسطينيين صبرا، من خلال المشاركة فى الجهود الإسرائلية الرامية إلى قطع المياه والدواء والغذاء عن سكان غزة المحاصرة دون استثناء، لتكون بذلك أقذر حرب تنزلق فيها الولايات المتحدة الأمريكية منذ الإعلان عن الإستقلال الأمريكى فى الرابع من يوليو 1776.
فى جامعة انواكشوط درسنا كطلاب للقانون بشغف بالغ تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية، ونضال الشعب الأمريكى من أجل الإستقلال، والحقوق المتاحة للأمركيين من أجل اختيار حكام البلد الغارق اليوم فى الصراعات الداخلية، وصاحب السمعة الأسوء من مجمل دول العالم الحر، منذ إنخراطه فى المجازر المرتكبة فى الصومال، وخوضه لحرب تدمير فى العراق، وانشكاف عورته جنوده فى أفغانستان، وتفرجه مع دول أوربا الخارجة من محرقة النازية على بلد صغير كدولة كوسوفو وهو يدفع ثمن الإستكبار العالمى، ويباد بالآلاف قبل سنين.
غير أنى أعتقد جازما اليوم أن طلاب جامعة انواكشوط الذين كانوا ينظرون باحترام لدولة المؤسسات الضامنة للسلم العالمى بعد الحرب العالمية الثانية، باتوا يعتقدون أنها مجرد إئتلاف أشرار يتخبط فى ماحذر منه أبرز رموز التحرير فى الولايات المتحدة الأمريكية "توماس جيفرسون" حينما خاطب الشعب الأمريكى قائلا إن " أعدى الأعداء صديق مجروح ". لقد وقعت الولايات المتحدة الأمريكية فى الفخ ، حينما تصرف ساستها تحت تأثير الإنتخابات الداخلية دون روية أو تفكير، وتحول كيان بحجم الولايات المتحدة الأمريكية إلى مخازن أسلحة للإسرائليين، وهم يدكون البيوت فوق الأطفال والنساء، بدل التصرف بمنطق الدولة المعنية بفرض العدالة وتطبيق القانون، واحترام القانون الدولى الإنسانى، الذى ينتهك اليوم فى أبهى صوره، وتداس كل القيم التى تعارف عليها الناس فى رقعة لايتجاوز عرضها 12 كلم بحساب العالم ماقبل السابع من أكتوبر 2023.
لقد دفعت الولايات المتحدة الأمريكية الثمن باهظا لسلوك بعض حكامها مطلع التسعينات، حينما دخلت الجزيرة العربية للإطاحة بنظام الرئيس الراحل صدام حسين، وأخرجت النخب الشبابية من عقال رؤي الوسطية والإعتدال إلى سوح المواجهة والصدام، بعدما أختار بوش الأب أن يسود قانون القوة والغاب، فكانت النتائج مرة على كل الأطراف، إنها أيام صعبة كان من المحتمل أن يأخذها صانع القرار فى الولايات المتحدة الأمريكية فى الحسبان، وأن يدرك قبل غيره، بأن منطق الغطرسة والقوة وانتهاك القانون وتقويض الصورة الخارجية وتقديم الولايات المتحدة الأمريكية بجيشها ودبلوماسييها ضد المبادئ الإنسانية والقانون الدولى، هو إضرار بها وبالدول الصديقة، وهو تثوير لمجتمعات، أخرجها الألم قبل عقدين من منطق النظر فى مآلات الأمور، وتبدو الحرب الأمريكية الآن على غزة برميل آخر يراد له أن يشعل منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، مع زيادة نسب الكراهية للولايات المتحدة الأمريكية بشكل غير مسبوق داخل أوساط المخب السياسية والإعلامية والإدارية فى عالم تعتقد الولايات المتحدة الأمريكية أنه وحوش برية، يتم التعامل مع قضاياه بالقوة المفرطة لا بمنطق العدل والقانون والحوار والشراكة والإحترام.
لقد تخلى بايدن وهو يحط بالعاصمة الإسرائلية تلابيب عن آخر شعرة ربانية حث أسلافه عليها، حينما تبنى الرؤية الإسرائلية للأحداث دون تعليق، وشكك فى أعداد أرقام الضحايا لإراحة ضمير يعتقد الملايين فى أنحاء العالم العربى أنه معطل بفعل الرغبة فى الفوز فى الإنتخابات الأمريكية والضغط الإسرائيلى العابر للأخلاق والقيم الإنسانية المتعارف عليها.
لقد قال جورج واشنطن ذات يوم وهو يخاطب أحد رفاقه " اجتهد دائما أن تحافظ على تلك الشعرة الإلهية التى تضىء القلوب وهى الضمير"، لكن من شاهد تصرف الحكومة الأمريكية اليوم يدرك بجلاء أن الضمير غائب وأن جورج واشنطن مات، وأن الولايات المتحدة الأمريكية محكومة بنخبة لم تعد تربطها بسير أسلافها غير بقعة أرض اسمها الولايات المتحدة الأمريكية، وأن العالم الحر أنتهى كمقولة يوم قرر ساستها رفع شعار الصليب، والتحرك للإنتقام من التاريخ البعيد، دون التمسك بأخلاق وقيم ورؤية من يحاولون اليوم الإنتقام منهم أو من أحفادهم فى كل مكان.
سيد أحمد ولد باب/ كاتب صحفي