ربما يغيب عن إدراك البعض أن المعدة بيت الداء، ويعرف ذلك البعض، لكن من يعرفه سيفهمه دون شك على قصد ومفهوم يعنيه هذا القول من قديم الزمن؛ متعلق بأن كل أدواء المرء سببها تخمة من مطعم أو مشرب، لكن يجب أن يفهم هذا القول أيضا فهما مغايرا، وبدلالة أخرى؛ لها ما يدعمها في الواقع والعلم.
لقد ثبت أن سبب كل انحراف في السلوك البشري القويم حرمانٌ، وثبت أن من بين أسباب الجريمة الجوعُ الناتج عن الفقْرِ، وثابت كذلك أن تأمين العيش للعائلة كان وراء ركوب المخاطر، ووراء الانحراف ومخالفة قانون المجتمع، وقانون الشرع والتشريع الوضعي.
وإن واقعنا الذي يفيض بأنواع الحرمان والإحباطات والصراعات؛ هذا الواقع الذي يشعر فيه الفرد بنقص الأمن وبعدم الأمان، ويحس فيه بروح التنافس الشديد بين الناس، وعدم المساواة، بل والاضطهاد والاستغلال الناتج عن الحاجة أو عن السعي إلى تأمين مستقبل يخلو منها؛ لهو سبب كل أمراض مجتمعنا، وهو سبب عدم قدرتنا على تجاوز هذا الواقع الأليم الذي نعيش تفاصيله اليوم.
يدرك العقلاء أن الحاجة تحطم كبرياء الشريفات، وأنها تحطم كبرياء الأشراف، وأنها سبب الشعور بالقهر وتدعو للتنازل عن الشرف، لذلك يسعون إلى اتقائها دائما، ويتجلدون أمامها إن أصابتهم من تقلب الدهر، وإن الطغاة والانتهازين يستغلونها لتحقيق غاياتهم الخسيسة.
وإن الأنظمة التي تضع مقاربات ناجحة للنهوض بواقع أوطانها؛ إنما تأخذ بعين الاعتبار سد الخلة كأول أساس لذلك، لأن الجائع لن يتعلم ولن يعف ولن يكون صاحب فكر قويم منتج ومفيد.
وإن أكثر أسباب الفقر في بلدي هي نهب ما في جيوب مواطنيه بالضرائب غير المباشرة، وإذا كانت الضرائب رافدا من روافد الدخل القومي الذي يدخل في تحصيل بعض ضروريات البناء؛ فإنها أيضا سبب من أسباب التخريب وجلب الويلات على الشعوب، فكيف ذلك ؟
إذا علمت أن ثمن لتر الحليب في وطنك أكثر من ثمنه في بعض البلدان بأكثر من الضعف، وعلمت أن السبب هو الضرائب غير المباشرة المجحفة، وعلمت أن ثمن الخبز في وطنك بضعف ثمنه في البلدان، وعلمت كذلك أن التاجر محمي في تلك البلاد ومصون الحقوق فيها، من منافسة غير مشروعة، سيصيبك العجب، وستقول كيف يمكن أن يكون ذلك؟
إن التنظيم أساس البناء، فلا قلة مع التدبير ولا كثرة مع التبذير، ولن يجمع أحد كفاية في كيس مثقوب، يدخل جمعه من فيه فيخرج من وكاءه، والمواطن عندنا هذه حاله، يجمع من الحلال والحرام لفرط حاجته لتأمين ضروريات العيش، وينفق في جيب تاجر جشع مشجع بالضرائب، ونهب خزائن دولة لا توفر من الخدمات؛ تعليما عموميا يكفي هم تعليم الأبناء في مدرسة جمهورية، ولا صحة عمومية تكفي هم الاستشفاء عند الخصوصية والخارجية.
إن الضرائب على المواد الاستهلاكية هي تجويع ممنهج، لا يقبله عقل، فكيف تتربح الدولة على حساب الفقير والغنى ؟
نعم؛ إن الضرائب من روافد المال العام، لكنها تكون على الكماليات حتى تحُدَّ من المظاهر، وتُعفى منها الضروريات رأفة بالضعيف، ودولتنا -ولله الحمد- غنية بالموارد لو سيرت، وتركنا الناس تعيش بسلام، فكل هذه الويلات بسبب المساواة في الظلم بالتجويع، وعدم المساواة في منح المميزات والتكريمات والتعويضات غير المتناسبة، بل وفي وسائل نهب الموارد العامة وتبديدها وصرفها في غير ما وجدت له.
يكفي من المغالطات، فأن تقطع الدولة من رزق المواطن بسيف بتار، وتعطيه بمنة واحتقار عشر عشر ما تنهب منه، لتشعر الجاهل منه بالإمتنان لها، ولكي تتحكم في ضميره بما تنهب منه فذلك هو التجويع الممنهج.
#_النائب_بلا_مقعد تأملات عاطل