ظاهرة طالما حاولت فهم مبرراتها و فكرت كثيرا في جدواها و السر وراء استمرارها كركن راسخ من أركان الممارسة السياسية هنا بل لعلها عمادها و الظاهر أن العهد بينهم و بينهم تركها.
إنها ظاهرة الاستقبالات الحاشدة للرؤساء عند كل زيارة لولاية في الداخل و الحشد الشعبي لها و الحرص على إظهار أكبر كم من علية القوم و كبار الساسة مصطفين يسعى كل واحد منهم أن يكون في طليعة المحشورين و في صدارة القائمين ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
تعج الساحة بالوزراء السابقين و الحاليين و الموظفين القدامى و الجدد و الطامحين الصعود و الخائفين السقوط و المعلنين الولاء المضمرين العداء و الداعمين الدائمين و المؤلفة قلوبهم من المعارضين السابقين و أصحاب النياشين و من الأعيان و الوجهاء أو هكذا يسمون أنفسهم في غياب أية صفة أخرى قد تناسب مقامهم أو تنسجم مع ما يظنون أنفسهم أهلا له.
لا يكاد يغيب عن المشهد متزلف و لا مُداج و لا مداهن و لا موارب بل تكاد تعتقد أنه ليس ثمة غيرهم لسطوة فكرهم و علو صوتهم.
من ضمن الحاضرين من يحضر كل الزيارات حيث كانت و متى قامت لا يبالي بشيء سوى برغبته الجامحة في الحضور و مبادلة الآخرين التحية و أخذ صورة مع هذا و أخرى مع ذاك لا يهتم كثيرا بالسلام على الرئيس و لا يرى في ذلك غاية لأنه جاء لغرض اكتتاب معارف جدد قد يكون فيهم من فيه مصلحة أو منفعة و لو بعد حين. أقصى أماني أحدهم أن تخرج له صورة على بلوار ميديا أو أية صفحة أخرى.
و منهم من رمت به صروف الدهر خارج دائرة الحظوة بعد أن كان وزيرا أو مديرا منذ فترة ليست بالبعيدة ليمضي أيامه يعمل ما أوتي من جهد كي يتذكره أصحاب القرار و يعيدوه من جديد لدائرة الضوء و مركز الاهتمام و يجد في زيارة رئيس لمسقط رأسه أو مسقط رأس أبيه أو أحد أجداده فرصة لتجديد الولاء و إظهار الاستعداد للعودة للمشهد و لايجد حرجا في ذلك حتى و لو كانت آخر زيارة له كانت بمناسبة آخر زيارة لأحد الرؤساء السابقين.
قد تجد ضمن الحضور من ليس له عهد حديث بمنصب و لا بصيت بل لعله قد فقد الأمل في ذلك و يريد من خلال حضوره إرسال إشارات تُشعر أنه ما زال هنا و أن قلبه ما زال ينبض أو جاء ضمن مجموعة تسمي نفسها حلفا تحرص أن تظهر قوتها أمام خصومها.
هنالك قلة لا تكاد تجاوز أصابع اليد. تشعر فور رؤيتهم أنهم غرباء في هذه الهالة و دخلاء على مثل هذا الجمع. لم يتعودوا بعد على مثل هذه المواقف. لا يتكلمون كثيرا و يحاولون لقاء أقل عدد من الحضور و أخذ أقل عدد من الصور ، يكثرون من ابتسامات المجاملة و الملاطفة. قاوموا كثيرا قبل الانخراط في هذه الممارسة. حضورهم يشكل غالبا صدمة لمن ظنوا أنهم سيحافظون على موقفهم و سيبقون متماسكين أمام الضغوط و الإحراج الذي يمارسه أصناؤهم عليهم. سيدرك هؤلاء و لو بعد حين أن انخراطهم في مثل هذه التظاهرات سيغير النظرة تجاههم و سيشوّش على الانطباع الذي كان سائدا عنهم.
من كل فج عميق جاءت كل هذه الجموع بمختلف مشاربها لغاية واحدة و هي تقديم التحية لرئيس من المفترض أنه قَدِم لأداء مهامه و الاضطلاع على أحوال رعية لا يراد لها أن تنفرد به كي لا تطلعه على واقعها المر و يضيع الوقت و الجهد بالتالي في شكليات لا تخدم حتى ممارسيها المستفيدين ظاهريا منها.
هذه الظاهرة و غيرها تعكس صورة سيئة عن ساستنا بل لعلها تضع محل الشك جديتهم في التعامل مع كل شأن عام حيث لا جدوى بينة ترجى وراءها و لا نتيجة ملموسة تنتظر منها بل أنها قد تشوش على سيرورة الزيارة و تحولها بالتالي من زيارة عمل الغاية منها الوقوف على حال المواطن و الاضطلاع على مشاريع ذات نفع عام و تقييم أداء مرافق عمومية إلى مهرجان لا غاية ترجى منه و لا نتيجة منه تنتظر.
فإلى متى ستصمد هذه الظاهرة أمام التطور الطبيعي للوعي الجمعي و هل سيحافظ سدنتها على قدسيتها ؟