قبل شهر من الآن وأنا أزور إحدى دولنا المغاربية الحبيبة ، تمت دعوتي للعشاء من طرف أحد كبار الشخصيات الأكاديمية والأستاذية في هذا البلد ، وكانت جلسة ماتعة تعانق فيها جمال المكان وأبهته مع طيب المتناول من الغذاء والشراب، فضلا عن أطايب الكلام والأفكار والرؤى، الحمدلله على نعمه ما ظهر منها وما بطن .
لكن المتعة والفائدة ستكمل وتكبر، حينما أشار هذا الأستاذ والأكاديمي والقانوني واللغوي وللساني والمثقف ، إلى أحد مشرفي المكان ( أن ناولني العود لنطرب السي السعد ) فقلت له لا لا أستاذنا لا تتعبوا أنفسهم !
فقال لي هل لديك موقف شرعي رافض للموسيقى ؟ فقلت له اللهم لا؛ فأنا في هذه ظاهري جدا - إشارة إلى ابن حزم - ثم إن المسألة خلافية ، والموسيقى في هذه الجلسة من أحل الحلال إذ لا يرافقها شيء مما كدر ويكدر صفو أهل التحريم ومما يتذرعون به ، فتفضل يا سيدي مشكورا !
-وحين بدأ مداعبة أوتار هذا العود، وبلغ منه ومنا السماع مبلغا كاد يتسرب إلى موطن الأسرار والأوجاع والآمال ، دندن بما حفظه من قصائد شوقية ونزارية ... مستحضرا أم كلثوم وحليم ووردة وفهد بلان ....ثم ضج الجمع لرشاقة العزف وعمقه وبلاغة الكلام وسحره ، وكان حديث الكوامن الذي أستله هذا السحر المباح ؛ عن الجمال والإبداع والإنسان والأكوان والبعث والنشور ولا شيء ثَمَ إلا الجمال.
وكان ما كان مما لست أذكره ...فظن خيرا ولا تسأل عن الخبر.
- الإنسان أيها السادة؛ هو متعدد الأبعاد ،فهو مزيج من الروح (الإيمان) والمادة والجمال!
ولا يقدح في إنسانيته أن يستأنس بالأصوات وبالكلام الجميل الماتع ، بل إن القبح كله يكمن في أن يختل توازن هذه الأبعاد! وبدعوى طهورية كاذبة، تحاول أن تجعل من الإنسان ذو بعد واحد متنكر لضعفه وعجلته ومزاياه ونواقصه وبالتالي لإنسانيته.
-حينما ينتشر الفجور أو المخالطة السافرة أو شرب الممنوعات، فلنا و للمجتمع كله أن يرفع صوته وللدولة أن ترفع عقيرتها ودرتها.
أما أن تمنع الثقافة والجمال والسماع، فهذا من الدعشنة الطارئة على هذا المجتمع ، الذي تجاور فيه اللوح والركاب والتدينيت لقرون في تناغم ووئام وجمال ، فأثمر هذا التجاور بدائع التهيدين والمدائح والنسيب ، فواجه الإنسان في هذه الربوع قساوة واقعه بحقائق اللوح وبأس الركاب وبالخيال المجنح للتدينيت !
فتدبروا سامحكم الله.
السعد بن عبدالله بن بيه
رئيس مركز مناعة الإقليمي لليقظة الاستراتيجية.