في مثل هذا اليوم من العام الماضي افتتح فخامة رئيس الجمهورية النسخة السابعة من المهرجان السنونكي الدولي، وتحدث في خطاب الافتتاح بكلمات ترحيبية باللغة السنونكية، وهو ترحيب لاقى إعجابا كبيرا من المشاركين في المؤتمر، وقد جاء في خطاب الرئيس: " إن الثقافة السنونكية هنا في موريتانيا على أرضها وموطنها، فهنا تألقت وانتشر إشعاعها".
وفي نفس المؤتمر ظهرت حرم رئيس الجمهورية في حفل الاختتام، وهي ترتدي الزي التقليدي السنونكي، ولقي أيضا ذلك التصرف إعجابا كبيرا من المشاركين في المؤتمر.
الجميل في كل هذا أن ترحيب فخامة الرئيس باللغة السنونكية، وارتداء حرم رئيس الجمهورية للزي التقليدي السنونكي تزامنا مع اليوم العالمي للغة الأم، فمنذ العام 2000 والعالم يحتفي كل عام في يوم 21 من فبراير باللغة الأم.
إن الاحتفاء بهذا اليوم قد يكون مناسبة لأن نتذكر نائب بوكى الراحل سي صمبا، والذي كان أول نائب موريتاني يقدم مداخلة بالبولارية في الجمعية الوطنية، وكان ذلك يوم ثلاثاء صادف الخامس من يونيو من العام 2012.
في تلك الفترة لم تكن هناك ترجمة للمداخلات باللغات الوطنية، وهو الشيء الذي كان يحتج به بعض النواب للتحدث باللغة الفرنسية بدلا من لغاتهم الأم.
أصر النائب الراحل سي صمبا على أن يقدم مداخلته في ذلك اليوم بالبولارية، وهو ما أحدث ضجة كبيرة داخل البرلمان، والغريب أن رئيس الجلسة طلب من النائب أن يتحدث بلغة أجنبية (الفرنسية) بدلا من لغة جعلها الدستور الموريتاني لغة وطنية في مادته السادسة!!!
في عهد الرئيس السابق للبرلمان الشيخ ولد بايه، وفي محاولة لتصحيح هذا الخلل، أجْرِيَّ تعديل على المادة 61 من النظام الداخلي للجمعية الوطنية، وهي المادة المتعلقة بالترجمة الفورية، ومكن هذا التعديل من ترجمة مداخلات كل النواب، وبأي لغة وطنية تحدثوا بها إلى كل اللغات الوطنية، على أن تبث قناة البرلمانية كل المداخلات بكل لغاتنا الوطنية التي يعترف بها الدستور، وهو الشيء الذي أتاح لجميع الموريتانيين أن يسمعوا ما يجري في البرلمان من نقاشات بلغاتهم الأم. في المقابل تم وقف الترجمة الفورية من وإلى اللغة الفرنسية، وهو ما يعني أن أي نائب يقدم مداخلة باللغة الفرنسية في البرلمان الموريتاني من بعد تعديل المادة 61 لن يفهم مداخلته إلا النسبة القليلة جدا من الموريتانيين التي تفهم اللغة الفرنسية.
شكلت هذه الخطوة محاولة جادة لجعل برلماننا يشبه برلمانات العالم حيث يُمنع الحديث باللغات الأجنبية في برلمانات العالم، ففي البرلمان التونسي والمغربي والجزائري يمنع الحديث باللغة الفرنسية، وذلك على الرغم من أن نسبة المتحدثين باللغة الفرنسية في هذه البلدان أعلى كثيرا من نسبة المتحدثين بها في بلدنا.
وعلى الرغم من تعديل المادة 61، وعلى الرغم من توفير الترجمة بين لغاتنا الوطنية ووقف الترجمة الفورية من وإلى اللغة الفرنسية، رغم كل ذلك فما زال بعض النواب يصرون على أن يقدموا مداخلاتهم بلغة أجنبية داخل البرلمان، وفي ذلك مخالفة للدستور الموريتاني، وخروج على التقاليد والأعراف البرلمانية، واستهزاء بالناخبين الذين صوتوا لذلك النائب، والذين لن يفهم أغلبهم تلك المداخلة، خاصة وأنها لن تترجم، ولو كانت بإحدى لغاتنا الوطنية لترجمت إلى بقية لغاتنا الوطنية، ولفهمها كل الموريتانيين.
إن إصرار بعض النواب على تقديم مداخلاتهم بلغة أجنبية بدلا من لغاتهم الأم، وذلك بعد توفير الترجمة بين كل لغاتنا الوطنية يطرح أكثر من سؤال :
فلماذا يستمر بعض النواب في تقديم مداخلاتهم بلغة أجنبية لا تفهمها إلا نسبة قليلة جدا من الموريتانيين، وذلك بدلا من تقديمها بإحدى اللغات الوطنية مع ضمان ترجمتها لكل اللغات الوطنية الأخرى ليفهمها كل الموريتانيين؟
هل صحيح ما نشرته بعض وسائل الإعلام الوطنية بعد الضجة التي أحدثها تعديل المادة 61، عن لقاء جرى بين السفير الفرنسي في نواكشوط وبعض النواب أوصاهم خلاله على أن يتمسكوا باللغة الفرنسية وأن يتحدثوا بها في مداخلاتهم بدلا من لغاتهم الأم؟
لماذا لا يتذكر بعض النواب لغاتهم الأم إلا عند الحديث عن تفعيل ترسيم اللغة العربية، وهل هم يعتبرون اللغات الوطنية مجرد ورقة لا تستخدم إلا ضد تفعيل ترسيم اللغة العربية؟
ألا يعني إعطاء اللغة الفرنسية مساحة لا تستحقها في الإدارة والتعليم، محاولة للوقوف ضد تفعيل ترسيم اللغة العربية وتطوير لغاتنا الوطنية، فكل مساحة تسطو عليها اللغة الفرنسية ستكون ـ وبكل تأكيد ـ على حساب ترسيم اللغة العربية أو على حساب تطوير لغاتنا الوطنية؟
لماذا لا يتم استخدام إحدى لغاتنا الوطنية في الخطابات الرسمية مع توفير الترجمة، وذلك عندما يتعذر على الموظف العمومي أن يتحدث باللغة العربية، وذلك بدلا من اللجوء إلى لغة أجنبية؟
كيف سنطور لغاتنا الوطنية وبعض الذين تعتبر هذه اللغات لغتهم الأم يرفضون التحدث بها في أي مناسبة تتاح لذلك، ويفضلون التحدث بدلا منها بلغة أجنبية؟
لنقلها بلسان فصيح وصريح : لا تعارض ولا صراع ولا تنافس بين لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية، وإنما هناك صراع بين لغتنا الرسمية ولغاتنا الوطنية من جهة واللغة الفرنسية من جهة أخرى، ذلك أن اللغة الفرنسية تحاول أن تسطو على مكانة لا تحق لها في التعليم وفي الإدارة، وذلك على حساب تفعيل ترسيم لغتنا الرسمية، وكذلك على حساب تطوير لغاتنا الوطنية، ولن يكون بإمكاننا أن نُفَعل ترسيم اللغة العربية بشكل كامل، وأن نطور لغاتنا الوطنية بشكل حقيقي إلا إذا عملنا على أن لا نسمح للغة الفرنسية أن تأخذ مساحة في التعليم أو في الإدارة لا تستحقها.
فلتأخذ اللغة الفرنسية المساحة التي تستحق أن تأخذها كأي لغة أجنبية أولى في أي بلد من بلدان العالم، وذلك على الرغم من أن مصلحتنا العليا تقتضي أن نجعلها لغة أجنبية ثانية، وأن نجعل اللغة الإنجليزية هي اللغة الأجنبية الأولى. لا بأس، فلتأخذ اللغة الفرنسية المكانة التي تستحق بصفتها لغة أجنبية أولى، ولتتوقف عند ذلك الحد، وهي عندما تتجاوز هذا الحد، فإن ذلك سيكون حتما على حساب ترسيم اللغة العربية وعلى حساب تطوير لغاتنا الوطنية.
رحم الله نائب بوكى الأسبق سي صمبا، وليت بعض نوابنا يتعلمون منه الاعتزاز بلغاتهم الأم بدلا من الاعتزاز بلغة أجنبية بدأ الأفارقة من حولنا يبحثون عن لغة بديلة لها.
حفظ الله موريتانيا..
محمد الأمين الفاضل