ذاتَ صباح مُشرق جميل من صباحات 2018 طلَع علينا في معهد ورشٍ قلعة القرآن َوحضن المعارف رجل متوسّط القامة باسم الثغر مشرق المحيّا ناضره صاحب لحية كثيثة يتأبّط كتُبَه، يظهر عليه سمتُ العلماء وخلُق الكبُراء فألقى علينا السلام والتحيّة، ونحن شبَبةٌ متقاربون جمعَنا طلب العلم وحبّ المعرفة من بلادٍ شتّى فألقينا عصا التَّسيار في ذلك الصرح وقرّ كل واحد منا عينا بذلك كما قَرّ عَينًا بالإياب المُسافرُ!
بعد ثوانٍ من سَلامِه وتحيّته العطِرة وكلماته الطيّبة التي افتتح بها المجلس،فأفصحتْ عن معدنه الأصيل وتعامله اللبِق الجميل ووشَت بأخلاقه الزكيّة استفهمَ الشيخ طلّابَه: أأنتم طلاب السنة الثالثة من الثانويَّة وعندكم الآن حصّة من الحديث "عمدة الأحكام"؟ قال قائلنا بلى يا شيخنا، فقال بسم الله "گدْمُو" من أين توقّفتم في الدروس الماضية؟
فامْتثلنا أمر الشيخ ومِن هُنا انكشف الغيْبُ وبان الخفيّ وبدَت ملامح ذلك الشيخ الوقور والعالِم الجليل الورع صاحب العَمامة المكوّرة البيضاء التي تُذكر بالأوائل، والوجه الصبيح المشعّ بضياء العلم وأنوار الخشية، وتاريخ مليئ بالأمور العِظام كما سنعرفُ لاحقًا من خلال صُحبتنا إيّاه والقراءة والتعلّم عليه.
بدأ الشيخ ينثر من كنانة علمه ويمُلي علينا فؤائدَه وفرائده بشكل منهجيٍّ منَظَّمٍ وبأسلوب علميٍّ رصين لا تعقيد فيه ولا لبس، فيقول وكلنا آذان صاغية وأعناق مشرئبّةٌ لتلك الفؤائد والفرائد: اكتبوا شرح مُفردات الحديث أوّلا..، ثم يثنَّى بالتعليق الإجماليِّ على أحاديث الدرْس المقرّرة ويثلَّث باسنتباط أهم الفوائد وذكر الأقوال في المسائل إن كانتْ ونِقاشها وبيان أشهرها وراجها من مرجوحها الخ...
ولا غروَ إن طابتْ صنائع ماجدٍ ** كريم فماء العود من حيثُ يُعصرُ!
تَمضي الأيام سِراعًا والشهور والأعوام عِجالا ويبقى الشيخ خليهنّ ولد حمود كما عرفناه لأول يوم وصباح من مطلع العام الآنف الذكر صاحب سجايا حميدة وخصال كريمة، بل إنّ الأيّام والليالي عرّفتْنا على جوانب من الشيخ كبيرة وكشفت لنا عن خلالٍ حميداتٍ توطَّنَّ نفسه وخالطن منه العظم واللحم والدَّم، وإنّها لتفوق حصري إن رمتها وعَدِّي إن حاولتها فمنها : دماثة الخلُق والصدق والإخبات، وطيب المعشر وحسن المخبر والمَظهر وغزارة العلم الذي يبذل لكل طالب وراغب، والزهادة في الدنيا والإقبال على الله والورع الشّديد، والانكباب على شأنه فلا تلفي الشيخ مشتغلا بسفاسف الأمور وصغائر المسائل، بل همّته أبعد منها وطموحه أعلى وشأوه في كل المكارم والمكرمات لا يدرك ولا يلحق.. ومن شمائلِه الحسان التي لاحظنا فيه: الرفق بالناس والرحمة والتيسير عليهم والتعامل معهم تعاملا طيّبا منقطع النظير فلله خلقه وتعامله وسمته وتربيّته وعلمه، فهو منهل عذب زلال وبحر من المعارف عظيم لا تكدّره الدلاء، وقد كان يمثّل الشيخ الشنقيطيّ بكل ما تحمل الكملة من معنى معارفه وأخلاقه وموسوعيّته وسمته ويشهد له بذلك كل من عرفه وجالسه وتلقَّى عنه وجاوره:
وقدْ شهِدَ الجميع لهُ بخيرٍ ** بهِ جَزمُوا يقينًا ليسَ ظنَّا
كما رفَعَ الألوفُ لهُ ثناءً ** وطبعا ترفعُ الألفُ المثنَّى.
ومن ذكريات تدريسه لنا -إن لم تخن الذاكرة- أنه مرّة حدّثنا عن بعض مؤلّفاته في علوم مختلفة منها على سَبيل المثال لا الحصر: أنظام بعضها يتعلق بالقراءات، وبعضها تقييدات لمسائل فقهية ولغويّة وغير ذلك وهذا غيض من فيض شمائله وقليل من كثير.
وعما تَبقَّى من حميدِ خصاله ** أرى الصمت أولى بي من آن أتكلّما.
البارحة نُعيّ إليّ الشيخ بعد عُمر حافل بالعطاء والعلم وأعمال البر وصوم الهواجر وقيام الليالي والدعوة إلى الله وتعليم الأجيال وبثّ الخير في الناس فأدركت أنّ موتَه ثلمة في الدين كبيرة وتيّتم للمحابر وأنين دائم بعد رحيله للمحاظر.
فعليه رحمات الله تترى وخالص العزاء لأسرته الكريمة وطلابه ومحبيه والأمة وللإخوة الشاعر الأديب ابنُ شيخنا عبد الرحمن حمود والأخ سليم محمد النحوي
و شيخن حمود و محمد إسلك حيده الحسن عزوز ناصر الدين الشنقيطي الحسين عزوز
مضى طاهرَ الأثوابِ لم تبقَ روضة ** غداةَ ثوى إلا اشتهتْ أنَّها قبرُ
عليك سَلامُ اللهِ وَقْفاً فإنَّني ** رَأيتُ الكَريم الحُرَّ ليس له عُمْرُ.
حِبَّنا محمد عالي عيسى
إنا لله وإنا إليه راجعون.