لنتجاوز حق الأحزاب والأفراد في الممارسة السياسية، فهذا مفروغ منه.
لكننا متفقون عليه بحكم التقاليد والأعراف الديمقراطية التي جسدناها في دستورنا ونطمح لتكريسها وفق العرف السياسي حتى نصدق كذبتنا، فكما تعلمون تتجسد القيم بعد أن تتجاوز مرحلة الإيهام.
في الأعراف الديمقراطية ينتهي نفوذ الرئيس عند نهاية مأموريته،
وما نتجاهله هو أنه لا يتحول إلى مواطن عادي بل ينتهي به المطاف حاملا لصفة " رئيس سابق" ، وهي صفة وظيفية يتقاضى من أجلها راتبا ضخما ويحظى بحراسة أمنية وجواز دبلوماسي وحقوق كثيرة ومعتبرة.
لماذا إذا لا يتحول الرئيس السابق إلى مواطن عادي يمارس السياسة ويدخل البرلمان ويتحزب؟
منصب رئيس الدولة منصب يتحول بموجبه الرئيس إلى صندوق أسرار الأمة وخازن عهدها، وهذا ما يجعله حقيقا بوظيفة " رئيس سابق" بكل وكامل امتيازاتها.
فهو حين يتحزب يستغل بنك معلومات الأمة لصالح فريق سياسي بعينه ويلعب بأوراق المجتمع التي حازها بمنصبه، لصالح جماعة أو حزب أو كتلة ( يحدث هذا في الدول التي لا تمتلك قوانين رادعة ولا منظمة لانشطة وتحركات الرؤساء السابقين) .
ثم إنه يستغل النفوذ الناتج عن العلاقات والمكانة التي منحه المجتمع كرئيس سابق.
وفي ظروف كهذه يجب أن نتساءل لماذا يُمنح الرئيس السابق كل هذه الامتيازات؟
ولماذا وعلى ماذا يتقاضا أجره وحراسته وجوازه الدبلوماسي ومجموع امتيازات لا يحظى بها غير الرؤساء السابقين .
الإجابة بسيطة، وهي أنه لايزال على رأس مسؤولية وطنية تقتضي الحفاظ على أسرار الدولة وعدم استغلالها أَو توظيفها في الخصومات أو المصالح السياسية.
من الجيد أن يدعم رئيس سابق مرشحا رئاسيا مثلا.
لكن ماذا علينا أن نفعل حيال تسويق رئيس سابق لممارسة نشاط سياسي في بلد لاتزال تجربته الديمقراطية في حيز الإيهام والدربة ؟
تحدث الرئيس السابق بفخر عن انقلاباته المتوالية في سياق إثبات زهده في السلطة، ولست أدري أكان ذلك إثباتا أم نفيا لزهده بها.
( انقلابان ومأموريتان)
تحدث عن تهديده المباشر وابتزازه للسلطة التشريعية في البلاد، في خضم حديثه عن ترسيخ القيم الديمقراطية.
تحدث عن نفاق وزرائه وتملقهم وكذبهم.
لم يكن الأمر مفاجئا لجل الموريتانيين فهم يعرفون مدى احتقار الرئيس السابق للديمقراطية والمؤسسات والمسؤولين ولعامة الشعب .
تحدث الرئيس السابق كثيرا و عن كل شيء وهدد الدولة والمجتمع السياسي والمدني،. لكنه لم يجب بعد على سؤال العدالة والشعب والبرلمان.
من اين لك كل هذا؟
مع أن الأمر في الظروف العادية لا يكلف أكثر من ساعة للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا.
ماذا يريد عزيز ؟
يبقى أن نتساءل كمواطنين عن دور الدستور والقوانين في حماية الأمة من الأطماع والحسابات الشخصية .
فالشعب الموريتاني قد دفع ثمنا باهظا جراء المأموريات المفتوحة والتصاق القادة في كراسي الحكم وإدمانهم على النفوذ .
لقد برر الرئيس السابق انقلابه على ولد الطايع بجريرة المأموريات المفتوحة .
و بعد ذلك تحمل الشعب الموريتاني مخاض كل الاضطرابات السياسية ليصل إلى نهاية مريحة حين صرح زعيم الفترة الانتقالية اعل ولد محمد فال رحمه الله بأن الشعب الموريتاني أصبح محصنا ضد أطماع المدمنين على ممارسة السلطة والنفوذ ، وذلك بإعلان التعديل الدستوري الذي عبر عنه رحمه الله بعبارته الشهيرة " درنا دونهم أقفال " ( يقصد المواد المحددة لعدد المأموريات ) .
فهل نسي ولد عبد العزيز كل معاناتنا ومتاعبنا التي قادت إلى تعديل الدستور آنذاك وتحصين مواده المعدلة بمواد تمنع تغييرها وتعديلها ؟
هل اعتقد الرئيس السابق أن بإمكانه تدمير تجربتنا واحتقار وعينا لدرجة جعلته يعتقد أن طموحاته وأطماعه وحساباته الشخصية ، كلها أهم من التاريخ و مكتسبات الشعب الموريتاني ؟
وكيف هو شكل الدولة والمجتمع في ذهنه بحيث اعتقد أن تصفية حساباته الشخصية وحمايته من العدالة ستعتبر مشروعا وطنيا يمكن طرحه للموريتانيين ؟
يحق لنا أن نتساءل اليوم ليس فقط عن مكانة الدستور بل عن منزلة الدولة والشعب في اعتقاد الرئيس السابق .
إنهما مجرد أدوات رخيصة مقابل إحساسه العارم بنفسه كشخص اعتاد على احتقار كل شيء ( التاريخ ، البشر ، الدولة ، المجتمع ، الثقافة ، الرأي ... الخ )
وهذه التساؤلات ليست تساؤلات شخصية ينتظر ان يجيبها شخصه الكريم ، وإنما هي تساؤلات وطنية نطرحها لتعميم الوعي بالمقدسات الوطنية ، حتى لو كان انتهاكها مجرد حلم وردي في ذهن هذا الطامح أو ذاك .
محمد افو