محمد افو يكتب /؟ أزمة الموالاة (2) : أحزاب الأغلبية

سبت, 07/13/2024 - 11:39

جل ما سأتحدث عنه في هذه العجالة منطبق بشكل أوسع على كل الأحزاب ، لكن أحزاب الأغلبية خلقت بيئتها السياسية الخاصة من خلال قيمة معنوية يمكن أن نطلق عليها "سياسة الكعكة" .
وفي المستهل أريد أن أنبه على طبيعة التخلق السياسي والتي لا تعني بالضرورة أن هناك حالة سياسية يمكن ان نحمل مسؤوليتها للقادة الحاليين أو السابقين للأحزاب ، فالقيم السياسية تتشكل وفق نظام تراكمي بطيء نسبيا ، يضاف لذلك أن حالة التخلق هذه ليست مسؤولية حصرية لبنية الأحزاب المعنوية وإنما تتداخل فيها التحولات الاجتماعية والثقافية بكل تفاصيل التحولات وشروطها و أدواتها بما في ذلك أداة التاريخ ، وهي بذلك تجسيد لما عليه الواقع الأخلاقي عموما .
لا يعني هذا بالمطلق عدم راهنية المسؤولية وفق تسلسل الأحداث والنتائج ، فلكل وضعية حل والحل مسؤولية قائمة في الوقت الراهن ويتحملها القادة الحاليون بالطبع .

المتتبع للحالة التي وصلت إليها أحزاب الأغلبية يدرك بجلاء جملة من الاختلالات المتعلق بعضها بالهيكلة والبعض الآخر بالرؤى .

وسنبدأ بالاختلالات الهيكلية :
1- استقطاب القاعدة نحو القمة لدرجة جعلت من الأحزاب هيكلا إداريا ضخما بلا أتباع ،، فعدد مستشاري رئيس الحزب ونوابه والمكلفين بمهام ومستشارى رئيس لجنة الشباب ورئيسة لجنة النساء ونوابهم والأمناء ونواب الأمناء وأعضاء المجلس الوطني والفيدراليون وهياكلهم التابعة محليا ، إضافة للوزراء والمدراء والنواب ونواب النواب والعمد والمستشارين ورؤساء الجهات ومستشاريهم ونوابهم .. الخ
كلها حولت الأحزاب إلى هياكل ضخمة قادرة على امتصاص المتاح من المناصب والمنافع نتيجة شبكة الاعتبارات المعقدة الناتجة عن ضخامة هذا الكيان .
فعلى سبيل المثال هناك الآلاف من الوسطاء اليوميين الباحثين عن توصية بشأن التعيينات والامتيازات والمقاولات ، داخل هذا الكيان الضخم .
ونتيجة ذلك لم يعد هناك عمل سياسي ولا وقت أو قدرة لبناء وتسويق رؤية سياسية أو فلسفة تستقطب أصحاب الرأي أو الفكر السياسي .

2- غياب الرؤية :
لا أحد يمكنه اليوم أن يصنف رؤية سياسية للحزب الحاكم ، فهو مجرد أداة متحلقة حول النظام الحاكم (ايا كان هذا النظام) وليست لديها فلسفة ولا رؤية غير برنامج الرئيس (أي رئيس) .
وغياب الرؤية ليس مجرد وضع مختل وإنما يجسد حالة اختلال أخلاقية ساتطرق لها لاحقا .

تطور حزب الشعب إلى الحزب الجمهوري ثم إلى حزب عادل فحزب الاتحاد من أجل الجمهورية ثم إلى الإنصاف ، دون أن يسهم هذا الكيان المتحور الضخم في صناعة أو إنضاج رؤية سياسية أو حتى تقديم مشروع وطني سياسي أوتنموي ، لم يحدث هذا أبدا .
لم يحدث أن تشكلت رؤية ولا خطاب ، ولا توجه هذا الكيان إلى خلق بيئة سياسية ولا فكرية لها مشروع وفلسفة تعنى ببناء مشروع أمة .

3- ليس هناك حزب حاكم:
فمصطلح أو مفهوم "الحزب الحاكم " هو مصطلح وضعت فيه العربة أمام الحصان وحُول المفعول به إلى فاعل فهو ليس حزبا حاكما وإنما حزب محكوم من أي حاكم
لكن الإسم يكون مطابقا للمعنى حين يتعلق الأمر بحكم الحزب الحاكم لكل تحركات وأنفاس أحزاب وأطياف الأغلبية .
فالحزب الحاكم هو مجرد تعبير رمزي عن أداة تنظيم الفاعلين في فضاء الموالاة .
فقد تشتت الفاعلون ضمن أحلاف ومبادرات تنحصر قيمتها في تكثيف الوجاهة و صناعة حظوتها ، ودور الحزب هو تسيير هذه الأحلاف ضمن شعار موحد شكليا لكنه مشتت فعليا بعدة اعتبارات .
فليست هناك رؤية تجمع هذا التجمهر الكبير من الداعمين للأنظمة ولا علاقة تربط بين خطابهم ولا ناظم سوى "دعم رئيس الجمهورية" .
لا شيء في هذه العملية يتخذ شكلا أخلاقيا .
فكل الموريتانيين يعلمون يقينا أن ليس هناك داعم لأي رئيس جمهورية مر من هنا وإنما هناك جوقة من الحيتان تستنزف الامتيازات من خلال اداة الجمهرة المحلية حول الرئيس .

4- فساد التجربة الحزبية :
وضمن هذه الفاعلية أصبحت أحزاب الأغلبية مجرد لجان فرعية تنتظر الأوامر والتوجيهات من الحاضنة الكبرى ، مثلها مثل المبادرات والأحلاف .

وبذلك نجح الحزب الحاكم عبر تاريخه في تذويب وتمييع الحالة الفكرية للأحزاب المتحلقة حول النظم الحاكمة ، باعتباره الموجه والممول والمدير لكل تحركاتها .
ليس هناك حزب واحد ضمن أحزاب الأغلبية يمتلك قراره ولا حدث أن شذ في تصور منهجي ولا مبدئي باعتباره منافيا لفلسفة ورؤية هذا الحزب .
فلا رؤى لتلك الأحزاب ولا مرجعيات فكرية .

وهذه الحالة لا تعكر المسار الديمقراطي فحسب وإنما تنتج عنها حالة الضمور المبدئي التي جعلت الحياة السياسية مفتقرة للمرجعية الأخلاقية التي تعللها وتستند إليها .
فعلى سبيل المثال ، حين يقرر الرئيس اختيار وزير للتعليم ، لن يجد شخصية تشبعت برؤية إصلاحية للتعليم وناضلت دونها ضمن مسار سياسي وفكري مؤسس (داخل حزب) .
وحين يبحث عن أعوان فسيكون مضطرا لتوزير ( تلاميد نقطة) يعطيهم الأوامر والتوجيهات ويمحص كل قرار وكل عمل يصدر عنهم بما في ذلك التفاصيل اليومية لقطاعاتهم .
وبهذا تقع الدولة تحت وطأة ثقيلة تتعلق بتسيير الإدارة بدل إدارة التسيير .
وإذا اخدنا نموذجا من الضفة الاخرى للتصور ، سنلاحظ أن هناك مفهوما في بريطانيا يعرف ب "حكومة الظل " .
ففي حزب العمال هناك وزير للخارجية معروف الإسم ومحدد المهام ومعلوم التوجهات والقناعات ، يعمل بوظيفة وزير خارجية بريطانيا "المنتظر" في حال فاز الحزب بالأغلبية البرلمانية.
وكهذا ،، وزير للتعليم وآخر للثقافة وغيرهم للداخلية ..الخ .
هذه الأحزاب تحكمها فلسفة وهي تعمل ليل نهار في القاعدة الجماهيرية لها وتستقطب أصحاب الشغف والفكر والفلسفة في المجال السياسي .
وتؤطرهم وتضعهم على محك التجارب وتعزز قدراتهم الإدارية والقيمية وتتم ترقيتهم حسب منطق الأداء والفاعلية والنجاح .
وهناك سجل أداء وتقييم يرافق هذه الشخصية طوال مسارها الحزبي ، وبناء عليه يتم التكليف الحزبي في كل مراحل الأداء .

5- منطق الكعكة :
ومفهوم الكعكة هذا هو مفهوم رمزي بالطبع ، ويشكل النسخة الأخيرة من تطورات الفراغ الحزبي .
ففي حين يغيب الحديث المبدئي والمناقشات الأخلاقية المعللة للسلوك والقرار السياسيين ، يبدأ الوعي في استهلاك هذا الفراغ لصالح مبررات جديدة .
ومن هنا تتشكل نظرية الكعكة ، وهي نظرية يمكن التعبير عنها بالتحلق حول المنافع من ناحية وتسخيرها للمتحلقين من ناحية أخرى .
فهناك دائما طرفان أحدهما يدير الثروة وآخر يستدير عليها .
فالمتحرك ضمن فضاء السياسة الموالي ، سيدرك إلى أي حد وصلنا في تبني نموذج الكعكة .
فليس من اللافت أن يتحدث رجل بالغ ومتعلم أو شاب خجول عن نصيبه المنتظر ولا أن يسأل عنه أو يقيم الدنيا ويرسل الوساطات والاتصالات لسبب يتعلق بعشرات من آلاف الأوقية .

فالكعكة هي غاية المتحدث والمتحدث إليه والوسيط والموسط له.
وهذا محل الإشكال الأكبر والأهم .
فقد تشكل دافع شهواني نفعي حين غاب الدافع المبدئي والأخلاقي .

ولا يزال الغبار يملأ فضاء السياسة ولا تزال الدولة في نظر الساسة مجرد كعكة .
أقول قولي هذا وأنا أنتظر ، متمنيا من كل أبناء هذا الوطن وخاصة قادة الأحزاب الذي أعرفهم فردا فردا وأعرف قدراتهم ورغبتهم في مثول الإصلاح السياسي داخل تلك الفوضى ، أن يواكبوا برنامج رئيس الجمهورية بإصلاحات سياسية وأن يعيدوا هيكلة هذه الأحزاب وتحريرها نحو فضاء يجر وعينا نحو عهود جديدة وفلسفات جديدة .
وأن تتشكل مرجعيات فكرية واعية وتنتج وتضع استراتيجيات ومقترحات وتخلق بصيرة شعبية تنضج قوة الأداء وقوة الاقتراح .
فلا يزال لديها الكثير من الفرص وفي كيانها ومن أعضائها قامات فكرية كبيرة وشخصيات نظيفة وهو ما يعزز فرص نجاح هذا النوع من الاصلاحات ويسهل مساره .

والأهم هو أن تثبت وتنبت.