يعدّ الحديث عن مكافحة الفساد من القضايا الشائكة التي تثير الجدل والنقاش في الأوساط السياسية والاجتماعية. ومع تزايد هذا الحديث، يبرز اتجاه يرى أن مكافحة الفساد لا يمكن أن تتحقق دون استبعاد كل من سبق له أن اتهم بالفساد، ولو كان ذلك اتهامًا ظالمًا. من هذا المنطلق، أود أن أستعرض وجهة نظري المتواضعة حول هذا الموضوع، لعلها تكون مرشدًا لبعض الإخوة والأخوات في فهم ما هو أنفع وأصلح لنا جميعًا، ولوطننا الغالي.
الفساد، في جوهره، ينشأ من اجتماع عنصرين أساسيين: "العمل المخل بالمسؤولية" و"المفسدون أنفسهم". فالعنصر الأول، وهو الأساسي، يتعلق بالأفعال التي تؤدي إلى إخلال في المسؤولية، مما ينجم عنه نقص غير مبرر في الموارد وابتعاد عن تحقيق الأهداف المرجوة. لمعالجة هذا العنصر، يتوجب وضع آليات قوية وفعالة لمتابعة العمل وتحقيق الأهداف، مع فضح التصرفات الشاذة ومحاسبة أصحابها بصرامة، بغض النظر عن مناصبهم أو مكانتهم في المجتمع.
أما العنصر الثاني، فهو المفسدون، أي الأشخاص الذين أسهموا بأفعالهم أو تقاعسهم في تفشي الفساد. هؤلاء لم يفلحوا في أداء واجباتهم، إما بسبب عدم المبالاة أو التهاون، أو حتى عدم القيام بها إطلاقًا عن قصد أو جهل. الطريقة المثلى للتعامل مع هذا العنصر هي التخلص من المفسدين، وهو أمر يتطلب الدقة والحذر لضمان عدم الوقوع في خطأ التشهير أو الإقصاء الظالم.
لا شك أن الحل الأمثل لمكافحة الفساد يتطلب وضع خطط ناجعة للتصدي للأعمال المخلة بالتسيير الرشيد، وفي نفس الوقت، الحذر من الاعتماد على من سبق لهم الاتهام بالفساد. ولكن هذا يتطلب من جهة إرادة قوية وصادقة وجهدًا فكريًا مخلصًا، ومن جهة أخرى التمييز بين المفسد وغير المفسد. في ظل الظروف الحالية، يبدو هذا الأمر معقدًا، حيث أن الكثيرين يطلقون تهمة الفساد على كل من عمل في المناصب العليا في العهود السابقة دون وجود أدلة قاطعة. في هذه الحالة، يصبح من الصعب العثور على بديل يتمتع بنفس الخبرة والكفاءة، مما يعقد الأمور أكثر.
لذلك، قد يكون من الأجدى أن تواصل الدولة ما تقوم به حاليًا من الاستفادة من كل من ترى فيه الكفاءة، مع التركيز على مكافحة الفساد بوضع الآليات المناسبة لذلك، مثل تفعيل دور الوكالة الوطنية لمكافحة الفساد المالي. ومع ذلك، يبقى على الدولة أن تضيف إلى هذا العمل البناء آليات أخرى تكفل نجاح الجهود المبذولة.
في الدول المتقدمة، حققت مكافحة الفساد نجاحات متفاوتة من خلال إشراك الصحافة الحرة في كشف الحقائق واستغلالها لخدمة المجتمع. لكن في حالتنا، قد لا تكون هذه الوسيلة الأنسب، نظرًا لأن صحافتنا غالبًا ما تخضع لمصالح شخصية وتفتقر أحيانًا إلى الوسائل اللازمة للوصول إلى الحقائق المفصلة. لذا، يصبح من الضروري أن تشرف الدولة بنفسها على إنشاء هيئة مستقلة لتنبيهها إلى كل حادثة مشبوهة، حتى تتمكن من التحرك سريعًا قبل أن تستفحل الأمور.
وفي الختام، أرى أن جعل مكافحة الفساد على رأس أولويات الدولة هو الخيار الأمثل، وعلى الجميع أن يسهم في تحقيق هذا الهدف. فمكافحة الفساد ليست واجبًا حصريًا على الدولة، بل هي مسؤولية مشتركة يتحملها كل فرد في المجتمع. لذا، يجب علينا كمجتمع أن نميز بوضوح بين الفساد والمفسدين، وأن نكون أكثر حزمًا في التعاون مع الدولة للقضاء على هذا الداء العضال الذي ينهش نسيج المجتمع ويضعف قوة الأمة.
وفي هذا السياق، يتعين على المثقفين وأصحاب الشهادات العليا أن يكونوا في طليعة من يتعاون مع الدولة لتحقيق هذا الهدف النبيل. فهناك مبادئ وثوابت مشتركة تجمعنا جميعًا، مثل الدفاع عن استقرار البلاد والحفاظ على سمعتها داخليًا وخارجيًا. هذه المبادئ يجب أن تبقى خارج دائرة الخلافات بين المعارضة والموالاة، لأنها تشكل الأسس التي بدونها لا يمكن لأي منهما أن يستمر.
محمد فال بن الكبير