بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف المرسلين
استغلال المنابر الإعلامية وخطب الجمعة لنشر ثقافة الحرية والإعتاق
تمثل المنابر الإعلامية، والمسجدية الوسائل الأكثر تأثيرا، والأوسع انتشارا حيث تجمع في جمهورها بين النخبة، والعامة، فإذا كان الإعلام لقوة تأثيره على توجيه الرأي العام، وصياغة التوجهات الكبرى داخله عد بمثابة السلطة الرابعة، فإن خطب الجمعة بحكم ارتباطها بأداء فرض مقدس في مكان مقدس قد اكتسبت قدسية وتأثيرا فريدا في المجتمعات الإسلامية، وبما أن الواجب أن يسخر الإعلام وخطب الجمعة لخدمة الأمة وقضاياها الكبرى بما يرفع من مستوى وعيها لحقوقها وواجباتها وتحديات عصرها، ويضبط مسار تطورها بالحكمة، والرشد ،والعدل، ويحصنها ضد الانزلاقات والفتن، فإن كبرى قضايا العصر بالنسبة لنا اليوم هي نشر ثقافة الحرية، والانعتاق ، طبقا للمبادئ الإسلامية الخالدة ،والمقاصد الشرعية الراشدة، والتجربة النبوية الهادية، فعلى الإعلامي، والخطيب ، وكل ذي منبر العمل علي إعادة الاعتبار لمبادئ:
1- الأصل الواحد الذي يحيل إلى المساواة في الحرية (يَا أيَهَُّا الناَّسُ إنِاَّ خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأنُْثىَ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعوُباً وَقبََائلَِ لِتعََارَفوُا).
- وإلى الإخوة الإنسانية "كلكم لآدم وآدم من تراب".
- وإلى المساواة "لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلا بالتقوى..."
2- وإلى حصر عوامل التفاضل في المكتسب أو الموهوب (إن أكرمكم عند الله أتقاكم)، و".. من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه".
فالتفاضل سنة جارية حتى بين الأشقاء، ولكن مرده إلى المكتسب، أو الموهوب، لا إلى الأصل، والعنصر، اللهم إلا إذا تحلى الأصل بقيم مكتسبة محمودة، واستمرت في السلالة والفرع، فذلك يعطي ميزة تفضيلية مردها في الحقيقة إلى المكتسب المحمود، لا العنصر الذي هو محل المكتسب "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا"، (وَالذَِّينَ آمَنوُا وَاتبََّعَتهُْمْ ذ رُِيتَّهُُمْ بِإيِمَانٍ ألَْحَقْنَا بهِِمْ ذ رُِيتَّهَُمْ وَمَا ألَتَنَْاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ).
3- ومن المبادئ الإسلامية المؤكدة على سمو مكانة الإنسان مبدأ: التكريم (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فيِ الْب رَِ وَالْبحَْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّي بَِاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَل ىَ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَ لَقْنَا تفَْضِيلًا ).
4- وكذلك مبدأ العدل الذي أوجب الإسلام استصحابه، واستحضاره والانضباط به مع كل إنسان، ولو كان مخالفا في الدين، فالإنسان في نظر الإسلام مكرم، ومستحق للمعاملة بالعدل لمجرد إنسانيته بغض النظر عن انتمائه ( وَلاَ يَجْرِمَنكَُّمْ شَنَآنُ قوَْمٍ عَل ىَ ألَاَّ تعَْدِلوُا ۚ اعْدِلوُا هُ وأقَْرَبُ لِلتقَّْوَ ى )9 فالعدل، والتكريم من الحقوق التي ألزمنا الإسلام بالتعامل على أساسها وطبقا لمقتضياتها ومتطلباتها مع كل إنسان.
5- ومن مبادئ تكريم الله للإنسان استخلافه له في الأرض وتكليفه بمهمة تعميرها: (وَإِذْ قَالَ رَبكَُّ لِلْمَلَائِكَةِ إنِ يِ جَاعِلٌ فيِ الْأرَْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالوُا أتَجَْعلَُ فِيهَا مَنْ يفُْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ ال دِمَاءَ وَنَحْنُ نسَُبِ حُ بِحَمْدِكَ وَنقَُ دِسُ لَكَ ۖ قَالَ إنِ يِ أعَْلَمُ مَا لاَ تعَْلَمُونَ )، (هُوَ أنَشَأكَُم مِنَ الْأرَْضِ وَاسْتعَْمَرَكُمْ فِيهَا فَ اسْتغَْفِرُوهُ ثمَُّ توُبوُا إِليَْهِ ۚ إِنَّ رَ بِي قرَِيبٌ مُّجِيبٌ )
6- وكذلك كرمه بتحميله المسؤولية الخاصة بعد مسؤولية الاستخلاف العامة " كُلكُُّمْ رَاعٍ وَكُلكُُّمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيتَِّهِ، الإِمَامُ رَاع وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيتَِّهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فيِ أهَْلِهِ وَهُوَ مَسْؤولٌ عَنْ رَعِيتَِّهِ، وَالْمَرْأةَُ رَاعِيَةٌ فيِ بيَْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا..."، " إنَّ ا لْعبَْدَ ليَتَكََلمَُّ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللََِّّ لَا يلُْقِي لَهَا بَالاً يَهْوِي بهَِا فيِ جَهَنمََّ سبعين خريفاً"، " من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت ، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر ، فليكرم ضيفه"14، وقوله تعالى: (سَتكُْتبَُ شَهَادَتهُُمْ وَيسُْألَوُنَ )، وقوله صلى الله عليه وسلم: " من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمه جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله"
7- ومن مبادئ الإسلام ذات الأثر البالغ في جبر كل كسر، ولم كل شمل، وإغاثة كل محتاج، وملهوف، مبدأ الإحسان الذي ينبغي للإعلاميين والخطباء التركيز عليه لا براز مكانته في الإسلام حتى يؤدي أداءه إلى جانب الإلزام (إِنَّ اللَََّّ يَأمُْرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتاَءِ ذِي الْقرُْب ىَ وَيَنْهَ ى عَنِ الْفحَْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لعََلكَُّمْ تذََكَّرُونَ )،
فبهما لا بأحدهما فقط يكون الوضع الإسلامي الصحيح الذي يفيض عدلا، وإحسانا، ورحمة، وأخوة، ومحبة، وتكافلا، وتضامنا، وتواشجا، فتتكامل لوحة جميلة تتداخل فيها الزكوات والنفقات الواجبة مع الأوقاف ،والصدقات والإنفاق في سبيل الله تطوعا وابتغاء مرضاة الله.
8- ويفعل مبدأ الإخوة الإسلامية فعله إذا ما تم إحياؤه في واقع الأمة (إِنمََّا الْمُؤْمِنوُنَ إِخْوَةٌ
فَأصَْلِحُوا بيَْنَ أخََوَيْكُمْ ۚ وَاتقَّوُا اللَََّّ لَعَلكَُّمْ ترُْحَمُونَ )، "لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يكذبه، ولا يحقره، التقوى هاهنا -ويشير إلى صدره ثلاث مرات- بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه"، فضمور مبدإ الإخوة الإسلامية في حس الناس هو الذي هيأ أرضية القطيعة القاتلة المدمرة وقضى على كل صلة مع رحم الدم والعقيدة.
9- وفي هذا السياق يتنزل مبدأ الحب الذي حث الإسلام على نشره وتركيزه بين المسلمين ليعزز مبدأ الأخوة، ويحارب ثقافة الكراهية، والقطعية " وَالذَِّي نفَْسِي بيِدَِهِ , لا تدَْخُلوُا الْجَنةََّ حَتىَّ تؤُْمِنوُا ، وَلا تؤُْمِنوُا حَتىَّ تحََابوُّا ، أوََلا أدَُلكُُّمْ عَلىَ شَيْءٍ إذِاَ فعَلَْتمُُوهُ تحََاببَْتمُْ ؟ أفَْشُوا السَّلامَ بيَْنكَُمْ "
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، فأين الحب بين المسلمين اليوم؟ ألم يضع؟وبضياعه ضاعت الأخوة، والتكافل، والتضامن، والأمن النفسي، والإجتماعي.
إن علينا أن نعيد بناء وتوطيد جسور المحبة بيننا حتى نكون جسدا واحدا إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى، والسهر، كما أراد لنا رسول الله صلي الله عليه وسلم أن نكون، ونحارب ثقافة الكراهية، والقطيعة، والأحقاد.
10- ويأتي المبدأ العاشر وهو وجوب السعي من أجل تحقيق الإصلاح الذي لا يقوم إلا على ضمان حرية الناس، وكرامتهم، ومساواتهم ( إِنْ أرُِيدُ إلِاَّ الْإِصْلَاحَ مَا اسْ تطََعْتُ ۚ وَمَا توَْفيِقِي إلِاَّ بِاللََِّّ ۚ عَليَْهِ توََكَّلْتُ وَإِليَْهِ أنُيِبُ )22، ( وَاللََُّّ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِح ِ)23، فلنكن جيمعا صالحين مصلحين راشدين مرشدين متعاونين على البر والتقوى، وعلى الإعلاميين والخطباء بصورة خاصة أن ي فعًلوا هذه المبادئ العظيمة وأن يستثمروها في واقع حياة الناس، وأن ينشروا من خلالها ثقافة الحرية والإنعتاق لأن كل مبدإ من هذه المبادئ العشر دال على مقصد الحرية، والكرامة الإنسانية، وخادم له، وكفيل إذا ما ف علً بالقضاء على مخلفات الرق من جهل منتشر، وفقر مدقع، وتخلف مستحكم الحلقات، ونفسية ضعيفة محطمة، فالتطور التاريخي لهذا البلد أنتج تراتبية اجتماعية تسببت في إقامة فوارق كبيرة على الصعيد الاجتماعي، والثقافي، والاقتصادي على أساس غير شرعي بالكامل، وبالتالي يجب أن يرفع عنها غطاء الشرعية الموهوم، أو المدعى، وأن تعاد الأمور إلى نصابها طبقا لمقتضيات الإسلام الصحيحة، وأن يجبر الكسر النفسي الغائر.
1- والدور الأول في ذلك يقع على المربين، والمناهج التربوية، ثم المنابر المسجدية، والإعلامية، والنخبة العالمة بصورة عامة فليسمع العامة صوت الإمام، وهو ينشد الحرية للجميع من على منبر مسجده، ويؤكد أنها الأصل، والمنتهى، وأنها مقصد الشارع الذي يجب أن يعمل الجميع على تحقيقه ،إن المنابر الإعلامية والمسجدية لا يجوز أن يبقى إسهامها في القضاء على مخلفات الرق، وآثاره رهن ردة الفعل، أو حكاية قول الغير، أو فعله بل يجب أن يكون لهذه المنابر دور مبادر جاد يرتكز على مبادئ الإسلام الخالدة إحقاقا للحق، ووقوفا مع المحتاجين، ونصرة للمستضعفين، وخلاصة القول إنه على الإعلاميين والخطباء وكافة الفاعلين أن يستثمروا مبادئ الإسلام، وتوجيهاته، ومقاصده لبناء واقع إنساني جديد في هذه البلاد ينعم فيه الجميع بالقدر الكافي من العيش الكريم، والتقدير اللازم، والاحترام المستحق، والمساواة المطلوبة، وأن يراعوا في أسلوب الوصول إلى ذلك الهدف مايلي: استحضار أولويات مشروع بناء دولة المؤسسات والمواطنة والحكم الرشيد التييطرحها واقعنا اليومي ويشكل عدم إنجازها عاملا معيقا لإقلاعنا الحضاري، ومربط الفرس لكل المشكلات التي تهدد وجودنا، وانطلاقتنا الراشدة إلى الحرية والإنعتاق.
2- الانطلاق في معالجاتنا لمشكلاتنا المركزية من مرجعيتنا الحضارية الناظمة التي نسلم بها جميعا، ويجب أن نخضع لها جميعا، حتى يتم تلقي الخطاب بالقبول الجمعي من الأمة كافة في ذات اللحظة، بعيدا عن الخطابات التجزيئية المثيرة لأن المشكلات مشكلات الجميع، والتحرك لحلها واجب الجميع.
3- ارتقاء أدائنا إلي مستوى المنابر التي نتحدث باسمها حتى نقنع المتلقين بأننا جديرون بالاستماع إلينا، والتحرك معنا من أجل إحداث التغيير المنشود (إِنَّ اللَََّّ لا يغُيَ رُِ مَا بِقَوْمٍ حَتىَّ يغَُي رُِوا مَا بِأنَفسُِهِمْ )
4- أن يتسم خطابنا بالشمولية، والتوازن، حتى نحمل كل طرف ما عليه من المسؤولية بصدق، وعدل بعيدا عن التضخيم، أو التحجيم، كي يتحرك الجميع بكل طاقاته بتناسق، وتعاون، وتكامل لتجاوز القصور الحاصل، واستدراك أخطاء الماضي علاجا لها، وتوحدا بالتعاون على حلها، لا جلدا بها .
5- أن يتحلى خطابنا بالحكمة، والرشد، والمسؤولية التي تقدمنا للمتلقي المستهدف على أننا أصحاب قضية، ننشد حلها، وتحقيق العدل بشأنها من كل طرف ذي صلة، بعيدا عن خطاب التأزيم الذي قد يدين البريئ ويقطع الأرحام، ويقضي على إمكانية تحرك الجميع باقتناع ورغبة ذاتيين لتحقيق ذات الهدف فينتج بذلك عقبة، لا حلا، ويضيف مشكلة جديدة، بدل حل المشكلة القديمة، والكل في ذلك خاسر.
6- أن يعمل كل من موقعه على بلورة صيغ عملية ممكنة على المستوى الأهلي تعزز مسار القضاء على آثار الرق، ومخلفاته بأداء جديد، ورؤية جديدة، وروح مبادرة جديدة، يقوم عليها الأغنياء تارة، والمثقفون تارة أخرى، والمصلحون الاجتماعيون، والشباب، والنساء، كل حسب اختصاصه، وطبقا للصيغة المنجزة محليا، وما يمكنه الإسهام به فيها، لنتجاوز الخطاب النظري إلى الإنجاز العملي، ولنحقق الممكن والمتاح الجزئي سبيلا إلى تحقيق المثال الكلي.
7- أن نجعل الجميع يقتنع بأن القضية قضيته، والمسؤولية مسؤوليته التي يتحمل فيها تبعات دنيوة وأخروية، وإننا كأمة يجب علينا بمقتضى المسؤولية الجماعية العمل عليى الارتقاء بكل مكوناتنا، وأبنائنا إلى ذات المستوى من الرقي الإنساني، والشعور بالتمتع بالعزة، والكرامة، حتى نعيش في بئة إنسانية راقية نتنفس فيها جميعا هواء صحيا صافيا حرا خاليا من كل الأمراض لأن الإنسان يتنفس بئتة الإنسانية رغما عنه كما يتنفس بئتة الطبيعية، فلنبن لأنفسنا بئة صحية طبيعية، وإنسانية نتنفسهما حتى نستطيع الارتقاء إلى الآفاق العليا بطاقات إنسانية نظيفة حرة، وطليقة.
8- أن نستشعر دائما أننا في سفينة واحدة، وأن خرقها يعرضنا جميعا للسقوط، والضياع، وأنه بسلامتها يمكننا أن نصحح في رحابها كل خطإ، ونتجاوز كل مشكلة، ونستدرك كل تقصير.
9- أن نستحضر ونستصحب النموذج النبوي في معالجته لهذه المشكلة في أبعاده النفسية، والتربوية، والاجتماعية، والسياسية، وأن نقرأ ذلك النموذج قراءة جديدة، نجمع فيها متفرقه ونبرز فيها كيف واجه مقاومة البئة الجاهلية الرافضة للتحرك من أجل الحرية، والانعتاق والمساواة، وكيف انتصر في تحديه للعرف الاجتماعي الجاهلي.
10- أن نتحلى جميعا بالصدق، والإخلاص في مقاصدنا، ونياتنا وأن نطهر وسائلنا كي يبارك الله في جهودنا، فيحقق بموجبها -من الإصلاح، والعدل، والمساواة- ما يفوق تصورنا، فالخلود للأعمال لا يكتبه شيء مثل ما يكتبه الإخلاص، والنجاح لا ينجزه شيء مثل ما ينجزه الصدق والإخلاص، فلنصدق مع الله، ولنصدق مع أمتنا، وسيكون النصر، والنجاح، والتوفيق، حليفنا بإذن الله.
أبو بكر ولد أحمد ولد المختار
انواكشوط 09 أكتوبر 2014