
في عالمٍ يُفترض أن يكون فيه الطبّ رسالة إنسانية، والصيدلةُ مهنةً تُعنى بحفظ الحياة، ظهر نوعٌ جديدٌ من القتلة، لا يحملون أسلحةً نارية، ولا يسفكون الدماء في وضح النهار، لكنّهم يزرعون الموت في أجساد الأبرياء بجرعاتٍ قاتلة، مغلّفةٍ بوهم الشفاء. إنّهم تجّار السموم، عصاباتُ الدواء المزوّر، الذين يتربّحون من آلام الناس، ويحوّلون المرضى إلى ضحايا، دون أدنى شعورٍ بالذنب أو المسؤولية.
الجريمة المنظمة تحت غطاءٍ طبيّ
ليست تجارة الأدوية المزوّرة جريمةً عادية، بل هي منظومةٌ متكاملة من الفساد، تبدأ من مصانع الظلّ التي تنتج العقاقير المغشوشة، مرورًا بشبكات التوزيع التي تملأ الأسواق والصيدليات بها، وصولًا إلى الأطباء المتواطئين، وموظفي الوزارات الذين يسهلون الإجراءات، وأصحاب المصالح الذين يحمون هذه العصابات من المساءلة القانونية. هؤلاء جميعًا يشكّلون لوبيًا خفيًا يدير تجارة الموت هذه، ويروّج لها على أنّها تجارةٌ طبيعية، بينما هي في الحقيقة محرقةٌ صامتة تحصد أرواح الأبرياء كل يوم.
الدواء القاتل: حين يصبح العلاج سُمًا
كم من مريضٍ لجأ إلى صيدليةٍ طلبًا للشفاء، فكان الدواء الذي تناوله سببًا في موته؟ كم من أمٍّ اشترت لطفلها دواءً خافضًا للحرارة، دون أن تعلم أنّه يحتوي على مواد كيميائية مسرطنة؟ كم من رجلٍ عجوزٍ عانى من آلام القلب، فتعاطى عقارًا مغشوشًا، ليكتشف بعد فوات الأوان أنّه لا يساوي شيئًا سوى مسحوقٍ عديم الفعالية؟
الأرقام مرعبة، والإحصائيات تشير إلى أنّ مئات الآلاف يموتون سنويًا بسبب الأدوية المغشوشة، التي تغزو الأسواق دون رادعٍ قانوني صارم، ودون محاسبةٍ حقيقية لمُرتكبي هذه الجرائم. والأخطر من ذلك، أنّ هذه الأدوية لا تقتصر على الأسواق العشوائية، بل تجد طريقها إلى المستشفيات، والصيدليات الرسمية، وحتى إلى عيادات الأطباء الذين يصفونها لمرضاهم، إمّا بسبب الجهل، أو بسبب الرشوة، أو بسبب تواطؤٍ مخزٍ مع هذه العصابات.
حين يصبح القاتل محترمًا!
المصيبة الكبرى ليست فقط في انتشار هذه التجارة القاتلة، بل في أنّ أصحابها يعيشون بيننا كرجال أعمالٍ ناجحين، يحظون باحترام المجتمع، ويُستقبلون في المحافل الرسمية، ويُعاملون على أنّهم شخصياتٌ مرموقة، بينما هم في الحقيقة مجرّد قتلةٍ بثيابٍ أنيقة.
إنّ السكوت عنهم مشاركةٌ في الجريمة، والتسامح معهم خيانةٌ لضحاياهم، ومنحهم التراخيص استمرارٌ في منحهم السلاح لقتل المزيد من الأبرياء. هؤلاء لا يستحقّون سوى أقسى العقوبات، ولا يجب أن يُنظر إليهم إلا كخطرٍ داهمٍ على المجتمع، تمامًا كما يُنظر إلى تجّار المخدرات والإرهابيين.
صرخة مواطن: كفى صمتًا!
أيّها المواطنون، لا تكونوا شركاء في هذه الجريمة بصمتكم! لا تجاملوا من يتربّح من قتلكم، ولا تثقوا في دواءٍ لم تتأكدوا من مصدره، ولا تتهاونوا في محاسبة كلّ من يروّج لهذه السموم. إنّ أرواحكم ليست سلعةً تباع في مزاد الفاسدين، وإنّ صحتكم ليست ميدانًا لتجارب الجشعين.
يجب أن يكون هناك قانونٌ رادعٌ صارم، يصل إلى الإعدام لمن يثبت تورّطه في هذه الجرائم، فلا يمكن أن تُترك أرواح الأبرياء تحت رحمة حفنةٍ من السفاحين الذين يبيعون الموت تحت مسمّى الدواء. كما يجب فرض رقابةٍ صارمةٍ على سوق الأدوية، وتجريم أيّ تواطؤٍ مع هؤلاء المجرمين، سواء كان من طبيبٍ، أو موظفٍ، أو مسؤولٍ فاسدٍ يسهّل لهم طريقهم.
إنّ انتشار الأمراض، وامتلاء المستشفيات بالمرضى، وارتفاع أعداد الوفيات، ليس قضاءً وقدرًا فقط، بل هو نتيجةٌ مباشرةٌ لجريمةٍ ممنهجة، تُرتكب كلّ يومٍ أمام أعيننا، وبتواطؤٍ من المتنفذين وأصحاب المصالح.
فإلى متى سيبقى هذا القتل الممنهج مستمرًا؟ وإلى متى سيبقى القاتل حرًا، بينما الضحية وحدها هي التي تدفع الثمن؟
د.محمدعالي الهاشمي