
من المؤسف أن المشهد السياسي في موريتانيا يشهد اليوم حالة غير مسبوقة من الانفلات الحزبي، تُنذر بتحوّل التعددية السياسية من آلية للتعبير الديمقراطي إلى ظاهرة عبثية تهدد جوهر الدولة ومصداقية الحياة العامة.
لقد كان الأصل أن يشكّل تأسيس الأحزاب تتويجًا لمشروع فكري متماسك، يعكس رؤية واضحة، ويستند إلى قاعدة اجتماعية حقيقية. لكننا اليوم أمام حالة فوضى تشريعية وتنظيمية، جعلت من تأسيس الحزب السياسي في موريتانيا أمرًا لا يختلف – من حيث السهولة – عن إنشاء جمعية أو نادٍ ثقافي. وكأن العمل الحزبي فقد قدسيته وتحول إلى باب من أبواب التسلل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
لقد بات مألوفًا أن نسمع كل يوم عن مبادرة لتأسيس حزب جديد. بل إن البعض – وأقول ذلك بمرارة – ممن لم تتح لهم فرص العمل أو التموقع الاجتماعي، وجدوا في تسهيل شروط الترخيص الحزبي فرصة للهروب من الواقع والانخراط في وهم العمل السياسي، لا لغاية وطنية، بل طمعًا في النفوذ أو بحثًا عن موطئ قدم في نادي “الأوليغارشية” الجديدة، التي تحتكر مفاصل المال والإعلام والسياسة.
شخصيًا، أعرف أكثر من أربعة شبان تخرّجوا حديثًا، ولم يوفقوا في التوظيف، ولا يملكون أي قاعدة جماهيرية أو مرجعية فكرية، ومع ذلك قرروا – بكل بساطة – تأسيس أحزاب سياسية، كأن الأمر مجرد تجربة فردية أو حيلة لكسر جدار العجز. هذه الحالة لا تمثّل استثناءً بل باتت نمطًا متكرّرًا ومقلقًا.
السؤال المركزي هنا: أين الدولة من كل هذا؟
إن الدولة – للأسف – لم تعد تمارس دورها التنظيمي المطلوب. فبعد أن خفّضت الشروط القانونية لتأسيس الأحزاب، لم تُرفق ذلك بأي آلية رقابية أو متابعة صارمة تضمن الحد الأدنى من الجدية والفاعلية. وبذلك، فتحت الباب أمام كل من أراد أن يؤسس حزبًا دون رقيب ولا تقييم، ما خلق بيئة سياسية ضبابية، تفتقر إلى المصداقية وتُعاني من التكرار والفراغ والسطحية.
هذا الوضع ليس تعددية، بل تفكك مُقنّع، يقوّض العمل السياسي الجاد ويغتال فكرة التمثيل الحقيقي. إننا نعيش اليوم ما يمكن تسميته “تسييل الحزبية” وتحويلها إلى نشاط حر خالٍ من المعايير، يُفرّغ الدولة من مضمونها المؤسسي، ويفتح المجال لصراعات شخصية بدل التنافس البرامجي.
ما المطلوب إذًا؟
إن وقف هذا النزيف السياسي يتطلب مقاربة حازمة وعقلانية تشمل ما يلي:
1. إعادة ضبط شروط تأسيس الأحزاب وفق معايير واضحة تضمن الجدية والتمثيل (عدد المنتسبين، البرنامج السياسي، الانتشار الجغرافي، الهيكلة الداخلية).
2. إطلاق هيئة وطنية مستقلة لتقويم الأداء الحزبي بصفة دورية، ومحاسبة الأحزاب الوهمية وغير الفاعلة.
3. تبني رؤية سياسية وطنية تُعيد للعمل الحزبي مكانته كأداة تعبير لا كأداة ارتزاق، وتُشجع الكفاءات الحقيقية على خوض غمار السياسة، لا الباحثين عن بدائل للبطالة أو ممرات للنفوذ.
إن السياسة ليست هواية، ولا مغامرة شخصية، بل مسؤولية وطنية بامتياز. وإذا لم تتدخل الدولة الآن لوضع حدّ لهذا الانفلات، فإننا سنجد أنفسنا أمام نظام حزبي مشوّه، يُقزّم الأحزاب الجادة، ويُكرّس مشهدًا سياسيًا عبثيًا، لن يلد غير الفوضى.
د.محمدعالي الهاشمي