منذ 1972 تعمل إسرائيل و اللوبيات الغربية المرتبطة بها، على تقسيم موريتانيا : كان العمل على هذا المشروع يعتمد في البداية على تفجير الغام الحدود التي زرعها المستعمر في كل البلدان عن طريق الجغرافيا الأثنية، فبدأ العمل على تحريض المكون الزنجي في الجنوب الموريتاني .
و كانت أخطاء المختار ولد داداه رحمه الله، فادحة في تلك الفترة : كانت فادحة حين لم يغير سياسته تجاه فرنسا التي تحولت إلى عدو لدود له بعد أن أمم “ميفيرما” و أنشأ الأوقية ، في ما يشبه إعلان الحرب عليها. لقد كانت هذه أول ثورة يقوم بها رئيس إفريقي ضد فرنسا، ما كان للأخيرة أن تتركها تمر من دون عقوبة..
كل الخيارات التي اعترضت طريق ولد داداه منذ توليه الحكم ، كانت صعبة لأنها كانت مصيرية و كانت صعبة لأنها كانت مع أطراف أقوى و كانت صعبة لأن شروط نجاحه فيها كان مرهونا بموقف فرنسا منها و كانت صعبة لأن ضعف الدولة الناشئة يجعل كسب أي رهان مشروطا بمقايضات ليست مريحة .. و كانت صعبة لأن كل الدول المحيطة بموريتانيا كانت إما أقوى منها و إما أقرب منها إلى سياسة المستعمر .. كان التزام موريتانيا بموقفها من فلسطين يضعفها .. كان دفاعها عن عروبتها يضعفها.. كانت ريادتها الإسلامية في المنطقة تضعفها ، عكس كل الدول المجاورة التي لم تكن أي منها تعاني من مثل هذه المشاكل إما بطبيعة انتمائها (مثل السنغال و مالي) و إما بإكراهات هذه القضايا الخارجية دون الداخلية (مثل المغرب و الجزائر). لكن الاعتراف بصعوبة مثل هذه التحديات ، لا يبرر بعض أخطاء ولد داداه الفادحة التي ما زلنا حتى اليوم ندفع ثمنها غاليا :
ـ توقيع الاتفاق القاضي بحرية التنقل و حرية التجارة بين بلدان غرب إفريقيا؛ حيث أصبحت موريتانيا وجهة كل إفريقي ضاقت عليه الحياة في بلده و حصلوا جميعا على أوراق وطنية بسهولة بسبب ضعف الدولة و ارتشاء الإدارة و فوضوية الحالة المدنية حيث كان كل قاضي و كل والي و كل حاكم و كل مفوض شرطة و كل ضابط حالة مدنية مخولا باستصدار أوراق مدنية لمن يشاء دون حسيب.
ـ حرب الصحراء : بغض النظر عن جدلية شرعيتها، كانت حرب الصحراء كارثة حقيقية على موريتانيا من عدة أوجه : أولا لأنها كانت بداية إجهاض مشروع الدولة الناشئة ؛ كان الحفاظ على الموجود أهم و أولى من طلب المفقود. فدخول موريتانيا حربا بحدود 1100 جندي (بين القوات المسلحة و قوات الأمن و الاحتياط من المتقاعدين) كان عملا لا يمكن أن يوصف بغير الجنوني. و ينسى الكثيرون أن ترنح النظام الموريتاني و عجزه عن الخروج من الحرب و عجزه عن الاستمرار فيها هو ما أيقظ الأطماع الجنوبية حينها، ليقول الرئيس السنغالي آنذاك، ليوبول سيدار سينغور “إذا حاولت الجزائر القيام بانقلاب في موريتانيا ، سيكون علي أن أطالب باستقلال الجنوب الموريتاني”.
ـ انقلاب 1978 : كان انقلاب 78 و تحكم الجيش في مصير البلد و تدميره لمشروع بقاء الدولة المستمر حتى الآن، من كامل مسؤولية الأستاذ المختار ولد داداه و من أكثر أخطائه فداحة :
ـ 10 يوليو 1978 ، كان الجنود الموريتانيون يرابطون على الحدود بلا ذخيرة ..
ـ 10 يوليو 78 كانت رواتب الجنود المتواجدين على خط المواجهة متأخرة لأكثر من خمسة أشهر ..
ـ 10 يوليو 78 كانت القوات المغربية تحرس الرئاسة الموريتانية ..
ـ 10 يوليو 78 كان أكثر من 11 ألف جندي مغربي متواجدين على الأراضي الموريتانية..
ـ 10 يوليو 78 كانت ضربات البوليساريو لقطار السكة الحديدية عمل شبه يومي ..
ـ 10 يوليو 78 كانت كل المدن الحدودية الموريتانية تتعرض أسبوعيا للقصف من دون أي حماية (تجكجة، تشيت، شنقيط، وادان، أزويرات …)
فماذا يمكن أن ننتظر من أي جيش في مثل هذه الوضعية غير القيام بانقلاب عسكري؟
كان المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله، رجلا نبيلا و وفيا من العمق الموريتاني الأصيل و كان صادقا في وعوده بإيقاف الحرب و تسليم الحكم للمدنيين ليسترد البلد عافيته بعد كارثة الصحراء التي نسفت كل ما بنته الدولة المدنية خلال عقد و نصف . و مع اقتراب موعد تسليم السلطة للمدنيين بدأت جماعة “الأطراف” تحيك مؤامراتها ضد مشروعه (تسليم الحكم للمدنيين) و بدأت التصفيات في صفوف ضباط العمق الموريتاني (جدو ولد السالك، بو سيف، أبو ولد المعلوم أحمد سالم ولد سيدي، كادير، نيانغ…) كل هؤلاء تم اغتيالهم غدرا و مكرا من قبل العصابات العسكرية التي أخذت الحكم بعدهم. كانت الأيادي الجزائرية و الليبية واضحة في كل ما يحدث على الأرض . و كان تضامن ما عرف حينها بـ”نادي ضباط الشمال” المتحالف معهما أكثر وضوحا.
و منذ حكم ولد هيدالة حتى اليوم تواصل استنزاف الكرامة الموريتانية على أيادي رجال اشتركوا في تقاسم صفات لا يمكن أن تأتي عن صدفة ( ولد هيدالة ، ولد اطائع، ولد عبد العزيز)، الجهل المخجل، النزوع إلى إذلال الشعب الموريتاني، التدمير الممنهج للتعليم، تصفية العقول، منح الثقة لكل مشكوك في ولائه و كل حقير موريتاني مستعد لبيع كرامته و تدمير بلده مقابل حفنة من النقود.
كان ولد هيدالة صحراويا لحما و دما و ولاء تماما مثل بوخريص (الذي دمر الجيش الموريتاني) و كان ولد الطائع لا ينتمي لغير غرائزه تماما مثل ولد عبد العزيز؛ كانوا جميعا يشتركون في الجهل المخجل و الغباء الوراثي و عقدة الانتماء الناقص و ضيق المحيط الاجتماعي و شذوذه . و كانت دائما لفرنسا أياديها الخفية في اختيار أمثال هؤلاء المعتوهين و تشجيهم على تدمير شعوبهم ، لا في موريتانيا وحدها و إنما في كل مكان من إفريقيا التابعة لها (بوكاسا، إيدي آمين دادا، ولد هيدالة، ولد الطائع ، ولد عبد العزيز…).
لقد تم تأسيس النظام في موريتانيا ـ منذ العهد الفرنسي المباشر حتى اليوم ـ على الفساد و المحسوبية و المحاصصة القبلية .كان لكل فترة فسادها الفاحش على أحد هذه الأصعدة ، حسب خصوصيتها لكن نظام ولد الطائع و فوضى ولد عبد العزيز اشتركا في تفشي الفساد بوقاحة على جميع الأصعدة . و الفرق في طريقة الفساد بين الاثنين هو الفرق في ثقافتهما و انتمائهما : كان ولد الطائع يراعي دائما الاحتفاظ على الشكل و العبث بكل المضامين فيما لم يكن ولد عبد العزيز يفرق بين شكل و مضمون لاختلاطهما أصلا في ذهنه: لا حدود لفساد ولد عبد العزيز و لا حدود لوقاحته و لا حدود لاحتقاره لهذا الشعب .
كان المستفيدون من نظام ولد الطائع هم من يدافعون عنه، كل حسب استفادته : كان له وزراء مخضرمون و رجال اعمال يعملون على استمرارية نظامه و مستشارون “عباقرة” يوجهون سياسته، فاستطاع أن يحكم أكثر من عشرين سنة و أن يدمر مع الوقت، كل ما يهدد استمرارية برنامجه التخريبي . كان حامل شنطته ولد عبد العزيز يحاول أن يفهم على طريقته كل ما يراه لأنه لم يكن يسمع أي شيء. فقد كان اختيار ولد الطائع له على المعايير التي اختارت فرنسا عليها ولد الطائع نفسه : ضابط جبان ، غير طموح ، يحتقره الضباط و يفتقر إلى عمق اجتماعي قوي يخوله التفكير في القيام بانقلاب و الهيمنة على البلد.
لقد نسي ولد الطائع أن الدولة ككيان منظم تقال لجيش و إدارة و أنه هو نفسه من دمر الجيش و أفسد الإدارة: كل عمليات القاعدة في العمق الموريتاني نجحت بنسبة 100% رغم تواضع وسائل تنفيذها : كيف يقوم الصحراوي باختطاف إسبان على طريق نواذيبو و يعبر بهم أكثر من 1500 كم ليبيعهم للقاعدة من دون أن تعترضه أي قوة؟
كيف يقوم شبان بلا خبرات و لا وسائل بقتل 4 فرنسيين على طريق ألاك و يؤجرون سيارات نقل عمومي و يعبرون الحدود كما لو كانوا في رحلة سياحية؟
كيف تقوم خمس دبابات بلا ذخيرة بالسيطرة لأكثر من 48 ساعة على نواكشوط 2003 من دون أن يستطيع جيش كامل اعتراضها رغم وجود مخزن أر بي جي في القيادة العامة (لم يجدوا خلال يومين من يعرف استعمالها) ؟
لقد دمر ولد الطائع كل شيء في البلد لأنه ما كان يستطيع أن يحكم أكثر من 20 سنة في بلد فيه جيش و أبناء يغارون عليه.
و يحاول ولد عبد العزيز إصلاح هذا الخطأ من خلال تشكيل مليشيات من أقاربه و مقربيه و من مرتزقة أجنبية يشرف هو نفسه و ولد لحريطاني و بوب دينار الجديد، المرتزق الفرنسي المتقاعد الكولونيل “بير دي جونغ” (Peer de Jong)، على تدريبها و تسليحها (في ضواحي إينشيري) في حين يتم نزع سلاح الجيش و تجويعه و وقف الاكتتاب فيه.
ولد ولد عب العزيز في قرية ريفية سنغالية صغيرة (دارو مستي)، من أب بلا وطن . عاش طفولة غير سعيدة و فترة شباب طبعها التشرد و الانحراف.. عمل مساعدا لسائق شاحنة (آبرانتي) و مساعد ميكانيكي في روصو و سائقا ثم فراشا، قبل أن يلتحق بالجيش. تلقى تكوينا متوسطا في مدرسة مكنس العسكرية كضابط صف “سمكري” (Tôlier). ساعدت فوضى حرب الصحراء و ما تلاها من حقب عسكرية بلا إدارات و لا معايير و لا ضوابط في تسلله بالوساطات و الطرق الملتوية إلى سلك الضباط.. بعد حصوله على رتبة رائد، انخرط مع محسن ولد الحاج في تهريب أفواج الهجرة السرية عبر موريتانيا، (روصو ـ نواكشوط) مستغلا رتبته في ما كان ينبغي أن يستغلها في محاربته.. بعد انكشاف أمرهما لدى المخابرات ، ذهب محسن إلى إفريقيا لممارسة الشعوذة (لحجاب) و عاد ولد عبد العزيز إلى لعب القمار (بوكير) كمدمن بعدما كان يمارسه من وقت لآخر. كان انحراف ولد الطائع ثم جنونه و انفلات الحكم من قبضته سببا كافيا لتعيينه على بازيب، و بالفعل لم يفكر ولد عبد العزيز يوما في الانقلاب عليه لأنه كان يعتقد أن للحكم أسرارا لا يراها كما كان واثقا أن المؤسسة العسكرية لا يمكن أن تقبل انقلابا يقوده حقير مثله، لا ينتمي إليها بتكوينه و لا إلى البلد بتاريخه ، لكن جنون ولد الطائع بعد انقلاب 2003، كشف هشاشة كل شيء و عرى كل أسرار الحكم و حقيقة هشاشته. كان ولد الطائع قد نزع سلاح الجيش لتصبح بازيب هي وحدها القادرة على القيام بانقلاب عسكري ، فكان على من يفكر في انقلاب عليه أن يضمن ولاء ولد عبد العزيز كما حدث بالفعل . بعد انقلاب اعلي ولد محمد فال و قائد الأركان السابق عبد الرحمن ولد بو بكر، انكشفت حقائق أخرى أمام ولد عبد العزيز : أولا أن فرنسا ممر إجباري ، ثانيا أن الجيش منزوع السلاح ، ثالثا و هي الأخطر ، أن لا أسرار للحكم غير ما يراه ، لكن ولد عبد العزيز رغم الصورة التي يحمل عنه البعض ، من خلال تهوره الغبي و عنترياته ، توحي كل تصرفاته بأنه من أكثر بني البشر جبنا، ( إذا كان علم النفس صادقا في حدود 30%).. ظل ولد عبد العزيز يهاب الانقلاب على الحكم حتى حفزته و أرغمته تصرفات الرئيس سيدي ولد الشيخ عبد الله على القيام به : حفزته من خلال إعطائه أكبر رتبة في الجيش و أرغمته من خلال إقالته من وظيفته من دون اتخاذ الإجراءات المناسبة.
يتبع
سيدي علي بلعمش