التعليم..و رغم ضروريته وحتميته في البناء والتقدم ، ورغم ما يجتاحه في بلدنا من خمول وتلعثم ،إلا أن الأمل في الوصول به إلى برٍّ يسبح بنا فيه بخطى ذهبية نحو ما نأمل ونرجوا ، منذ كانت هذه الصحراء لا تتسع إلى لأهل الغزو والسلب والنهب ومنذ كانت ملاذا آمانا في الوقت نفسه
يرتاح فيها من يريد التقرب إلى الله زلفا والتعلق بأرض هي تبعد منه مسافة ما بين الكعبة وولاته، فينكب إلى العلوم وأنواع المعارف الدينية بالحفظ والتجويد حتى تصبح جميع الكتب الشرعية في وعيه وإدراكه ، ومنذ أتت الدولة الوطنية بأساليب وشعارات التحديث وما يتطلبه التحديث من عدل ومساواة بين كافة الشرائح والفئات ، ومنذ أن تخلى المجتمع عن كافة الوسائل المعنوية والمادية السابقة وباتت الدولة فرضا عليه ولا يتعامل مع سواها إلى في حالة نادرة ، وهو يعيش نفس المعاناة ونفس الظروف المحاطة بالضبابية وعدم الوضوح ، ورغم ما كان من إعلان رئيس الجمهورية بأن سنة 2015 ستكون سنة للتعليم بامتياز إلا أن تلك الظروف الرديئة لازالت تحيطه من كل جانب إذ لم تظهر بعد بواد صادقة وملموسة لإصلاحه، مما يدفع إلى الحيرة والتساؤل عن سبب ذلك ..؟ وعن وضعه بالتحديد ..؟ وعن إمكانية إصلاحه في ظروف تحيط بها أعباء الماضي وتتحكم فيها بقدر ما تبصر هي الواقع وتريد التماشي معه ..؟
ويمكن أن تفسر أزمة التعليم في موريتانيا انطلاقا من نقاط أساسية علمت بها الحكومة وتجاهلتها نتيجة لأسباب قد تكون مبررة وقد لا تكون لها تبريرات ، أو جهلتها وغابت عنها وسعت في إيجادها وهذه النقاط منها ما هو تاريخي متجذر في العقلية الجمعوية ويؤثرا سلبا على خطوات الإصلاح التي تنوي الحكومة أو الحكومات السابقة تطبيقها ، ومنها ما هو ناتج عن فشل سياسة الحكومات المتتالية وعدم مبالاتها بقطاع التعليم على مرّ العقود الماضية .
وبالنظر إلى حال التعليم في الماضي فإن وضعه كان مستقرا نتيجة للتقسيم الشرائحي الذي كان يتحكم في أدوار الأفراد داخل المجتمع فالزاوي لا يمكن أن يحمل السلاح ولا يُسيّر إلا إلى المعرفة والتعلم ، وكذلك حال العربي صاحب السلطة السياسية لا يمكن أن يُسيّر ويًعلم سوى الفروسية والقتال ، هذا في التشكيلة الاجتماعية السابقة على الدولة وقبل الانصهار الكامل في الوطن الجديد ، ومع فتح مجال الترقي الاجتماعي والمساواة عن طريق سلم التعليم ،فإن الوضع تحكمت فيه بشكل قوي في البداية تلك النظرة والتقسيم الاجتماعي الأول ، وشيئا فشيئا أصبح ذلك التكامل الذي سعت إليه الدولة كائنا محققا نسبيا على الأقل ، بعد أن ضرب الجفاف سكان الضواحي وحطم مرتكزا تهم الاقتصادية البدائية وبعدما دخلوا المدن بحثا عن أنشطة وأساليب جديد عوضا عن الأساليب السابقة ، وبعدما تفاقمت الأزمات الاجتماعية نتيجة عجز الدولة عن احتواء الوافدين الجدد وتوفير لهم الضروريات ،ورغم عدم مسايرة العليم متطلبات سوق العمل وعدم تحقيق ما يجب أن يُحقق منه ، فقد باتت جميع الشرائح والفئات الاجتماعية المختلفة المكونة للمجتمع الموريتاني تُوجه أبنائها للتعليم المدرسي وتشجعهم على المواصلة فيه ، ويعود ذلك لما حققه من سبق إلى التعليم أيام كان المجتمع البدائي غير معترف به ومشكك في جدوائيته لأننا مجتمع لا يعترف أفراده بالقدرات الشخصية ، فمن خلال ذلك أصبح التعليم المدرسي شائعا وبعد انتشار ثقافة التمدرس وتعليم الأبناء وبعد شيوع ثقافات كانت من إضراب المستحيل سابقا ، أصبح النفوذ والصراع داخل الدولة من أجل تحقيق ما سعى إليه الأبناء من التعليم ، وتفاضلت الشرائح من خلال ذلك مع عجز الدولة عن تطبيق رؤيا واضحة تحدّ من التفاواتات الاجتماعية داخل المدارس والجامعات على الأقل .
والنقطة الثانية تتجسد في عدم وجود رؤية استيراتجية واضحة المعالم ومحكمة بشكل دقيق توجه أساليب ومناهج التعليم وتوازي بينه وبين متطلبات الموارد الاقتصادية فالتعليم في جهة وسوق العمل في الجهة الأخرى ولا تربط بينهم أية روابط مطلقا وقد يكون ذلك راجع إلى مسائل منها عولمة التعليم وهيمنة الغرب في كل شيء داخل شعوب العالم الثالث بشكل عام ، وازدواجية معاير التعليم فينا ، فلابد لمن يريد إصلاح التعليم أن يضع خطة واضحة المعالم ومحكمة تراعي الخصوصية الثقافية وتحاول قد الإمكان الحد من الهيمنة الخارجية داخل سوق التعليم وخارجه ، ولا يتأتى ذلك إلى من خلال التمسك باللغة السائدة في الوطن وإخضاع كافة المنهاج التعليمية لها بمعايرها الخاصة ، فالإصلاح لا يتأتى من خلال اعتماد رؤى مختلفة ومناهج ولوغٌ مختلفة داخل الوطن الواحد وهذا يؤثر سلبا وبشكل كبير ليس على التعليم فحسب بل على الوحدة الوطنية بشكل أولى .
فهاجس من كرس حياته للتعلم هو الوظيفة وهاجس من يقومون على عملية التعليم ويديرون المؤسسات التعليمية هو المال وتوسيع النفوذ لكي تتعمد عليهم القبيلة في أمور ذات اهتمام مشترك داخلي يراعي القرابة والدم ، فكيف للدولة أن تنفق على أبنائها سنينا في التعليم ولا تأخذ المقابل منهم وكي للفرد أن يأخذ من دولته جميع ما وفرت له دون أن يعوضها قليلا ، إنها إشكالية تتحكم فيها المصالح الجهوية والقبلية والنفوذ السياسي والولاء الضيق واللاوطنية المفقودة فينا ، وعدم تحديد الأهداف الكلية والجزئية في كل شيء لاسيما التعليم