قد لا يكون منطقيا أن يرفض أي حزب سياسي حريص على المصالح العليا للبلد الذي يوجد فيه، الحوار مع أي فصيل أي كان، سيما إذا كان مع الحاكم أو النظام، لكن الأمر يختلف في بلد كموريتانيا، تحكمه وتتحكم فيه ثلة من العسكر انقلبت على السلطة واحتكرتها منذ عقود من الزمن.
ليس سرا في موريتانيا أن العسكريين الذين انقلبوا على السلطة أواخر سبعينيات القرن الماضي، أعاثوا في البلاد الفساد، ودمروا الاقتصاد، وقمعوا الحريات، وقضوا على أي أمل للتداول السلمي على السلطة، فكان الطريق الوحيد إليها هو الانقلابات العسكرية، التي تتالت وتتابعت إلى أصبحت معتادة في الشارع الموريتاني، وتعود الموريتانيون مع كل انقلابي سماع وعود بديمقراطية، لم يقدر لها لحد الساعة أن تتحقق، إذ بمجرد أن يرسخ الحاكم الجديد سلطته، ينكث بوعده، وما سمي في البلاد ب"المسار الديمقراطي" مطلع تسعينيات القرن الماضي، ليس إلا امتثالا لضغوط خارجية.
كما نجح العسكريون في الحكم بالحكم العسكري المحض في الفترة ما بين 1978 -1992، نجحوا في الحكم بالانتخاب الصوري في الفترة التي تلت ذلك إلى أن عادت 2005 الانقلابات التي لم تخرج فكرتها من مخيلة القادة العسكريين.
تحت ضغط دولي وإقليمي ووطني لم يجد انقلابيو 2005 الطريق ممهدا أمامهم، فاضطروا 2007 بعد فترة انتقالية، لإجراء انتخابات حرة، لم يشاركوا فيها لأول مرة، وإن لم يغيبوا عن المشهد بشكل كامل.
بعد الانتخابات حُكمت موريتانيا بحكم مدني يتحكم فيه قادة عسكريون، ما لبثوا أن انقلبوا عليه، وعادوا إلى الواجهة، حكاما عسكريين، ولما لم يجدوا الأرضية ملائمة، خصوصا بعدما تبين لتكتل القوى الديمقراطية أن الجنرالات المنقلبين لن يسلموا السلطة للمدنيين، وقرر عدم دعمهم، اضطروا للحوار مع مناوئيهم من السياسيين، وتوج الحوار باتفاق داكار الذي أنهى الأزمة في البلاد، مؤقتا على الأقل.
ما إن أجريت الانتخابات الرئاسية التي تحوم حولها الكثير من الشكوك، و"فاز" بها الرئيس "الجنرال" محمد ولد عبد العزيز، حتى تنكر الأخير لاتفاق دكار وبنوده وكأن الهدف منه إجراء انتخابات تعيده للحكم بزي مدني.
منذ أن حكم الرئيس عزيز وهو ينتهج سياسة الإقصاء والتهميش والهيمنة على مقدرات البلاد وخيراتها، ولما بدا له ولزمرته أن الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في البلاد تزداد سوء يوما بعد يوم، اضطر 2011 لإجراء حوار بشروطه هو، حوار قاطعته أغلب الأحزاب السياسية التي تملك ثقلا حقيقيا في المشهد الوطني، لأن التجربة علمتها أن الرئيس عزيز لا يؤمن بالحوار ولا يقيم له وزنا، ولا يفي بالالتزامات التي يرتبها عليه، وهو ما أعلن عنه وبشكل صريح مَن تحاوروا معه 2011.
بعد حوار 2011 ظن الرئيس عزيز أن بإمكانه تجاوز الأزمات التي تعصف بالبلاد، والتي ظل والمقربون منه ينفون وجودها، ويرفضون الدخول في حوار جاد يخرج البلد من المأزق السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي يتردى فيه.
ورغم الانتخابات الصورية التي أعادت انتخاب الرئيس عزيز لم يعترف بوجود الأزمة، ولم يدعو في خطاب تنصيبه إلى الحوار، وظلت تصريحاته بشأنه شكلية، إلى أن أعلن بشكل مفاجئ في شنقيط استعداده لحوار وطني جاد.
طبيعي أن تتحفظ القوى السياسة المعارضة في البلاد على دعوة إلى الحوار كهذه لم تسبقها مقدمات، خصوصا مع طرف أثبتت التجربة أنه ليس رجل حوار، ولا يولي اهتماما للمقربين منه، أحرى خصومه، فما الذي دفع الرئيس عزيز إلى الحوار في فترته الرئاسية الثانية؟
المتتبع للشأن السياسي المدرك لعقلية الرئيس عزيز يبدو له جليا أن اندفاعه نحو الحوار ليس لمصلحة وطنية ولا لخدمة الديمقراطية، بل لمآرب شخصية تخدم مصالحه أو مصالح المقربين منه على أبعد تقدير.
قد يكون الرئيس عزيز دعا إلى الحوار بغية تنظيم انتخابات رئاسية مبكرة تسمح بإعادة انتخابه، ليحقق بذلك حلمه في تمديد فترة حكمه؛ الذي بدا له ولمعاونيه أن المناخ الدولي لم يعد يسمح بتمديه، خصوصا بعد ما حدث مع بليز كومباوري.
سيناريو آخر قد يكون وراء دعوة عزيز للحوار، وهو أن يؤمن لنفسه مخرجا آمنا بعد ما استولى على معظم ثروات البلد، وتراجعت أسعار الحديد والذهب، وأصبح الوضع الاجتماعي والأمني ينذر بحدوث كارثة، قد لا تحمد عقباها.
كما قد يكون الهدف من وراء الدعوة إلى الحوار أيضا تمهيد الطريق أمام حكم عسكري آخر في ثوب مدني، أو حكم مدني يحكم من ورائه المتنفذون في المؤسسة العسكرية.
وفي كافة الأحوال على المعارضة أن لا تغتر بزيف الدعوة إلى الحوار فهي ليست إلا سرابا يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.