الحقيقة/انواكشوط/شكل إعلان الرئيس الموريتانى محمد ولد عبد العزيز القاضى بإلغاء مجلس الشيوخ الموريتانى وإحالة الفاعلين فى الغرفة للتقاعد خلال مهرجان حاشد بالنعمة يوم الثالث من مايو 2016 رسالة مفاجئة للعديد من قادة الأغلبية والفاعلين فيها، وصدمة كبيرة لدى عدد من الشيوخ الذين راهنوا عليه خلال العشرية الأخيرة.
ورغم وقع المفاجئة داخل الأغلبية الداعمة للرئيس والمعارضة المتحفزة لمعرفة ماسيبوح به الرئيس ، فقد قوبل القرار بترحاب كبير من بعض القوى الفاعلة فى الأغلبية ، وتسابق أعضاء الحكومة لشرح خطاب الرئيس والترويج لأفكاره، بعد الحملة المشككة فى سلامة طرحه من قبل أحد أبرز الأحزاب السياسية المعارضة ( حزب تواصل) وما قيل عن انزلاق الرئيس إلى سجال اجتماعى بالغ التعقيد والحساسية داخل البلد.
لكن الحملة التى أرادت لها الأغلبية أن تكون داعمة لخطاب الرئيس فى وجه المعارضين له، تحولت إلى شقاق داخلى بعدما أفرط بعض الوزراء فى شتم الشيوخ والتعريض بهم – حسب الغرفة-، وكانت بداية أول انشقاق قوى داخل الأغلبية الداعمة للرئيس محمد ولد عبد العزيز.
سلسلة اجتماعات سرية وأخرى علنية أنتهت بتشكيل "خلية أزمة" أحيلت قيادتها لشيخ باسكنو ( أقصى الشرق الموريتانى) الدكتور الشيخ ولد حننا، مع تصعيد إعلامى ضد أعضاء الحكومة وقيادة الحزب الحاكم وتلميح يقترب من التصريح عن رفض الشيوخ لقرار الرئيس، واستهجانهم لما أعلنه فى النعمة دون تشاور أو تفاهم مع الأغلبية الداعمة له.
لم يكترث أغلب الساسة بما آلت إليه الأمور داخل غرفة ظلت توصم بالتدجين طيلة تاريخها السياسى، ولم يثق أي رئيس حزب سياسى أو إعلامى بأن الشاب الذى قفز ذات يوم من قيادة حزب صغير (الصواب) إلى فضاء الاستقلالية والقبيلة قد يشكل رأس الحربة فى مواجهة نظام يصفه خصومه بالديكتاتوري، ويرى فيه أنصاره حركة تصحيح غيرت مسار البلد وأعادت للدولة هيبتها وللعمل السياسى قيمته ورونقه.
ظهر السيناتور الشيخ ولد حننا للواجهة من بين مجمل أعضاء الخلية وهو واثق من نفسه ومقتنع بالطرح الذى يدعوا إليه، وتصدر المشهد المعارض لإلغاء الشيوخ وتعديل الدستور داخل البرلمان أو خارجه، وأكتفى أصدقائه بالدعم داخل الغرف المغلقة دون المجازفة بمعارضة الرئيس علنا أو إظهار الرفض فى انتظار اللحظة المناسبة، تاركين المهمة له وقد أعلن استعداده للأمر، مما حول "ثورة الشيوخ " من حراك جاد فى عيون أصحابه إلى مهزلة فى عيون الآخرين.
كان الجميع ينظر إلى حراك السيناتور المعارض الشيخ ولد حننا بقدر من الريبة، بينما لايرى فيه أكثر المتفائلين سوى ظاهرة صوتية عابرة، أختار صاحبها أن يعبر عن امتعاضه مما آلت إليه الأمور، بفعل التهميش الذى يشعر به، معتمدا على تاريخ من الرفض والاستقلالية فى الرأي فى جو أسرى أهله لقيادة الحراك الجديد، مع الفاعلية فى المشهد الداخلى (باسكنو) خلال السنوات الأخيرة . متقاسما قيادة المدينة مع شقيقه محمد محمود ولد حننا الذى بات ممثل المقاطعة هو الآخر فى الغرفة الثانية للبرلمان (الجمعية الوطنية)، ناهيك عن تراكم الخبرة فى مجال الطب الحديث بعد بضع سنوات فى الخارج أهلته للعيش من مهنته بعيدا عن اكراهات السياسة التى دخلها من بوابة التيار البعثى فى موريتانيا عشية تأسيس حزب "الصواب" المعارض 2004.
ولد الشيخ ولد حننا فى مقاطعة باسكنو وترعرع فى منزل والده قائد المنطقة بلا منازع وزعيمها التاريخى سيدى ولد حننا (1913-1991) ، وفيها عاش أيام الطفولة وفى مدارسها المتهالكة عرف سبيله للتعليم، دون أن تمنعه وعورة الطريق والعزلة المفروضة بفعل التهميش والجغرافيا القاسية من مواصلة مشواره الدراسى، مع عدد من أخوته وأقرانه، باتوا خلال السنوات الأخيرة واجهة الفعل السياسى والعسكرى بعاصمة "أولاد علوش" ورموز المجتمع الفاعلين فى المقاطعة المتاخمة للحدود مع الشقيقة مالى.
شكلت شخصية الوالد سيدى ولد حننا محل إجماع داخل الأسرة، وظلت الأمور لصالحه منذ تولى قيادة "أولاد داوود" خلفا لوالده حننا ولد سيدى سنة 1956 إلى غاية رحيله 1991 مع بداية المسلس الديمقراطي بموريتانيا، وظل مكان احترام وتقدير من مجمل الرؤساء والفاعلين فى المشهد.
وقد حافظت الأسرة على تمثيل المقاطعة فى المجالس البرلمانية المنتخبة عنها والمجالس البلدية المكلفة بتسييرها، ترشيحا أو تمثيلا (سيدنا عالي ولد حننا 1992 / 1996) ، وكان محمد محمود ولد حننا ممثل المقاطعة فى مجلس الشيوخ لعدة سنوات، قبل أن يغادر الغرفة تاركا مكانه للشيخ ولد حننا فى صراع أنحاز فيه مجمل أركان المؤسسة العسكرية الحاكمة سنة 2006 ( ومنهم ولد عبد العزيز) لصالح الأخير، لكن عضو مجلس الشيوخ المحاصر ساعتها محمد محمود ولد حننا تمكن من العبور بسلاسة لمجلس النواب بأعلى نسبة تم تسجيلها فى الحوض الشرقى خلال انتخابات المجلس الأخيرة.
حضور فى المشهد لم تعكسه توازنات السلطة التنفيذية بموريتانيا، ودعم مطلق للسلطة التنفيذية قوبل بتحجيم الممنوح من الحضور للمقاطعة وساكنيها ، وتعزيز مكانة "الأغراب" داخل المشهد، عبر تمكينهم من الوسائل المادية والمعنوية الكفيلة بخلق أقطاب داخل الساحة المحلية، لولا اكراهات التاريخ وقدر من الوفاء فى الحاضنة الشعبية التى راهن عليها ولد حننا وأسرته فى مواجهة الخصوم الجدد.
حاول ولد حننا طيلة ظهوره المتكرر النأي بنفسه عن أي مطالب شخصية أو جهوية أو مقاطعية، وأستند إلى مشروعية الفعل الديمقراطي الذى يمنحه الحق فى الاختلاف مع الرئيس والحكومة حول تقدير المصلحة، متمسكا بمعسكر الأغلبية رغم معارضته لقرارات الرئيس، ورافضا الانجرار نحو مواجهة حدية مع السلطة، رغم تمريره مع رفاقه لأقوى قرار أتخذه المجلس فى تاريخه الطويل.
وخلال الفترة الأخيرة التحقت به أوجه أخرى من الغرفة الثائرة اليوم فى وجه الرئيس، وجوه جمع بينها الانتماء للأغلبية المسحوقة داخل الأغلبية، والقناعة بضرورة رفض قرارات الرئيس الأخيرة بشكل صريح، مع مكانة اجتماعية تمنح أصحابها حق التحرك فى العلن دون الخوف من الإقصاء والتهميش فى بلد لاتزال كلمة السلطة التنفيذية فيها الأقوى، ولا يزال الفعل المعارض فيه محدود التأثير.
يصر الشيخ ولد حننا ورفاقه داخل الغرفة وهي تحتضر- بفعل إصرار الرئيس وبعض معارضيه – على أنهم جزء من الأغلبية الداعمة للرئيس، لكنها أغلبية ناصحة، ويصرون أكثر من ذلك على رفض قرارات الرئيس الذين يدعمونه بكل الوسائل الديمقراطية، محذرين من مغبة الانجرار نحو استفتاء غير مجمع عليه، ومشككين فى مدى قانونية أفعال الرئيس المكلف – وفق الدستور- بحماية الدستور وتطبيق القانون.
لم تنزع الأغلبية – وهو أمر مفاجئة- عباءة الموالاة عن شيوخها الثائرين، ولم يقبل الرئيس فى آخر خرجة إعلامية الدفع باتجاه إجراءات عقابية ضد داعميه، قائلا إنه خلاف بين أصحاب البيت الواحد، ولامكان فيه للأغراب .. لكن هل يستمر الإصرار على احتواء الأزمة داخليا فى ظل إصرار الشيوخ على التصعيد؟
زهرة شنقيط