
بسم الله الرحمن الرحيم----أسفار الإستفسار-----لست من أهل العلم ولا متعالم، على نهج الذين ينتقدون أهل العلم من دكاترة اليوم وباحثيه، إنما أجلس في السفح وأراقب علماءنا على قمة الجبل وهم أهلها وحق بها وأهلها.. ولكن أريد ولو بشيء من الإيجاز المخل بسبب بعض ضروريات الحياة وعدم توفر المتسع من الوقت وعدم الاستقلالية، إذ ترتيب الأولويات حاضر وغايات الشرع ما ندرك منها متراتبا بمقاصد. ولكن وحيث إنني مطالب كما جميع المسلمين بالتفكر والتدبر وبالنظر وإمعان النظر فيما يحقق المصالح العامة لبني الإنسان، وجدتني أتساءل عن حكم المشاركة في شؤون الحكم وإدارة المصالح العامة وخصوصا بالنسبة لقممنا العلمية (العلماء).
وحيث إنني قد جمعت حول هذا الموضوع من المعلومات ما شكل لدي إشكالات حقيقية كان لزاما علي أن أتساءل في شكل يثير أو يحفز أو يلفت الانتباه إلى التساؤل حول الموضوع، وحيث إن مقاصد الشرع أو علم المقاصد من بين تعريفاته واستعمالاته التي وردت في التصانيف يرادف نوايا المكلفين وإراداتهم التي تؤثر على العبادات والمعاملات، وكما جاء في الموافقات: "الحكم في أمر بنص جزئي والإعراض عن كلية فيه خطأ وكذلك الأخذ بكلي النص دون جزئية فيه خطأ".
لا أريد أن أضيف في هذا الباب، ولا أريد أن أصوب، فلست أهلا للإضافة ولا للتصويب ولكن جوهر غايتي هو تسليط الضوء ولو بشيء من الواقعية والمرحلية في هذا الموضوع الذي قد لا يجده علماؤنا الأجلاء ضرورة أو أنهم يعتبرونه من نافلة القول في التأليف والدرس. أما في الممارسة فقد تعودنا في أيام أمتنا هذه الإنفصام حتى أصبحنا نبرر الخطيئة بانتشارها ونحمل وعاء التبرير ما لا يحتمل.
لا أريد أن أنتقد تولي المناصب في الحكومات الفاسدة ولكن أنبه أهل العلم والرأي ممن هم أدرى مني وأعمق إدراكا وأجدر وأقدر على البيان، ثم إنني كمنتم لهذه الملة يحق لي التساؤل على نحو يفيدني بل ويعم نفعه إن شاء الله تعالى، إذ الأمور بمقاصدها إن كانت مقصدا.
وحيث إن المناصب من منطلق شرعي وقانوني هي جزء من إدارة الشأن العام، فهي مشاركة فيما يقوم به السلطان وببساطة ووضوح منقطع النظير، يجعلهم في محل التساؤل والبيان.
وحيث إن علماء الأمة قد بينوا وسفروا الأسفار وزبروا الزبر في هذا الشأن، إلا في جزئية جديدة كهذه، فلا حاجة إلى الغوص فيه كثيرا، والبحث فيه يقتضي سبحا طويلا من البحث فلا حاجة لنا إليه هنا إلا بقدر الحاجة. وهنا أجد أقرب ما كتب في هذا الموضوع وأكثره انفتاحا على واقعنا اليوم ما قاله أبو حامد الغزالي، حيث يقول: "إن العلاقة بين الحاكم والمحكوم تكون على ثلاثة أوجه: إما أن يدخل الحاكم على العالم وهذا أهونها، وإما أن يدخل العالم على الحاكم وهذا شرها، والوسط بين الموقفين وهو الوجه الثالث، ويكون حسب الحاجة وهو أقومها". فإذا قلنا إن تولي المناصب من هذا الباب، حيث إن الكثير من المناصب لا يباشر فيه العالم الدخول على السلطان بل وإن دخوله هذا إذا قبلنا تجوزا أنه دخول حاجي محكوم بقواعد شرعية نوردها على سبيل الذكر تباعا دون الشرح والاستدلال: (... كل ما لا يدرك كله لا يترك كله، وقاعدة ارتكاب أخف الضررين، والضرورات تبيح المحذورات وهي أكثرها ملامسة لهذه المسألة من وجهة نظرنا)، فإننا نختصر ونجمل الكثير والكثير من القواعد والشروح، إذ الاستفسار موجه لأهل العلم وهم من هم جهابذة هذا الفن، ونسأل سؤالا عريضا يتسع شرحه لمؤلف وقد تتسع الإجابة عليه لمؤلفات، وهو:
هل يبقى والحال على هذا الوضع الذي نحن فيه اليوم مرجح إذا خضنا وأوغلنا في الخوض في القاعدة التي وردت قيدا على قاعدة الضرورات تبيح المحذورات والتي هي الضرورة تقدر بقدرها، محمل من الحق نتكل عليه، حيث إن تنزيل الأحكام وتطبيقاتها يجعل الذي يتولى منصبا عاما أمام مواجهة هذه الموازنة وتكون حاجته لمرجح أقوى وأكثر إلحاحا إذا قلنا إن جلب المصالح فيها ودرء المفاسد متساويان وهو الأمر الذي لا يستقيم.
إذ لهذه الموازنة لابد من الإجابة على سؤال آخر وهو ما هي المصالح التي ستجلب وما هي المفاسد التي ستدرأ بتولي المناصب العامة؟ وهنا لن أخوض كثيرا ولن استطرد في الشرح كثيرا، حيث إن العوامل التي تؤثر فيها الإجابة على هذا السؤال محدودة، وحيث إن الإجابات المؤثرة على السؤال محدودة كذلك وأبرزها أن لابد لهذه المناصب ممن يتولاها وخير من يشغلها العالم، وسدا لذريعة أن يتولى جاهل إدارة منصب، فتضيع مصالح كثيرة للأمة، لكن هذا أيضا يتفرع عنه إشكال آخر سيصطدم به هذا العالم العامل إذا سلمنا جدلا بتوليه لهذا المنصب وهو هل لقراراتك يا عالمنا واعتمادا على تعاليم الشرع تأثير على القرار السياسي الفاسد الذي يلامس حقيقة حياة الفرد ويضرب مصالحه العامة في العمق، حيث الدين والنفس والمال والعرض.
ثم، كم من المفاسد تترتب عند توليه لمنصب في هذا النظام ولا يخفى، والحال هذه أن قوى الشر وعوامل العولمة جعلت من ذلك جدارا سنصطدم به كباحثين عند الموازنة في غياب مرجح واضح محقق الأساس والمبنى، ذلك أن تولي العالم للمناصب العامة يجعلها وجهة مبررة للجهلة بحكم الاقتداء والمساواة في الحقوق والواجبات مع غياب الضوابط العملية: الخبرة، الحق، المساواة، القانون، المحسوبية في الجانب الآخر وغيرها... والفساد بوجه عام ثم ما ينجر عن تولي العلماء للمناصب إلى جانب الأنظمة الفاسدة وإضفاء الشرعنة والوقوف في وجه إحقاق الحق وإبطال الباطل وإظهار المثالب بالتعمية والتجلية المقصودة واللعب على مشاعر الموحدين من أبناء الشعوب المسلمة الذين لم يسعفهم الحظ في التعليم حتى يتمكنوا من التمييز بين الحق والباطل ويبقى لهم فقط التقليد والتسنن بالعلماء في الإذعان للقرارات السياسية الصادرة عن أولي الأمر اقتداء بعلمائهم الأجلاء وتبرير أكل المال العام والفساد الإداري وانتشار الرشوة و... و... مما لا يتسع المقام لذكره.
هنا لا أريد أن يفهم هذا على أنه إشكال يثار لخدمة توجه سياسي أو معارضة نظام معين، إنما القصد منه جلي لذوي النهى والحجا إن أمكن تأويله، ولكن لن أترك لذي وطر مسلكا يسلكه؛ حيث أنبه إلى أن فقه الموازنة بين المصالح والمفاسد ينقسم إلى ثلاث حالات: الأولى أن تكون المصلحة راجحة وقسم أهل العلم المصالح في أدق المباحث وأكثرها غوصا إلى الضروريات والحاجيات والمحسنات، ولما قرر إمامنا العز بن عبد السلام هذه القاعدة قسم المصالح التي ترجح على المفاسد إلى ثلاثة أقسام ورابع (مختلف فيه)، فأين يجد علماؤنا الأجلاء الظهور السياسي وتولي المناصب العامة؟
والحالة الثانية: أن تكون المفسدة هي الراجحة فدرؤها أولى. والحالة الثالثة أن تستوي المصلحة والمفسدة وهنا تأتي القاعدة لحل الإشكال. وهنا لا يفوتني التنبيه على الخلاف الذي وقع بين علماء المجال والجدل الذي دار بينهم في احتمال وقوع التساوي بين المصلحة والمفسدة، ولأنه لا يغير كثيرا في المعطيات التي سنتحصل عليها، إذا قمنا بالموازنة والترجيح، حيث إن احتمال اللجوء إلى التساوي بين المفسدة والمصلحة في هذه الحالة غير مطروح ومستبعد لهذه المعطيات العلمية والواقعية التي بين أيدينا إذا اعتمدنا القواعد السابقة. ولكن ولحل الإشكال إذا وجد يقول الإمام السبكي: "درء المفاسد أولى من جلب المصالح".
هذا ولا يخفى على من يوجه إليهم السؤال دقة الحدود الفاصلة بين المفاسد والمصالح في هذا الباب، مما يجعل المغامرة في اجتهاد أقرب إلى عدم الاهتمام بما يجب على المكلف من الوقوف عند أوامر الله ونواهيه في دقيق أموره كلها وجلها.
وكذلك أخشى وأنا أكتب هذه العجالة أن تفهم على أنها دعوة للعلماء للتخلي عن الشأن العام وهذا لعمري غاية في سوء التقدير والفهم، ولكن يتبادر لمثلي من المهتمين والباحثين عن الحق أنه يجب أن يتخذ العالم مسافة متساوية بين الحاكم والمحكوم ومستقلة استقلالية تضمن له التجرد فيما يدعو إليه وما يحققه من غايات في سبيل إحقاق الحق وإبطال الباطل، بل هذا لعمري مقصد شرعي إذا ما فهمنا دور العالم الحقيقي، إذ كما يبدو لي أن للعالم دورا محوريا في تصويب القضايا العامة يلزمه بالمسك بوسط العصا وعلى مسافة متساوية بين طرفي النزاع المفترض، وحتى يكون للريادة معناها الحقيقي وهو المرجعية العامة للحاكم والمحكوم على حد السواء والذي يقزمه التموقع.
لا أقول أبدا إن السيارات الفارهة والقصور وجمع المال هو أمر مذموم، بل أقول ما قال ربنا جل في علاه: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}. صدق الله العظيم. ولكن أخشى ما أخشاه أن الطيبات قد اختلطت بالخبيثات فلا تكاد تجد طيبا صرفا، نسأله سبحانه من فضله.
وأخشى على علمائنا الأجلاء كذلك من قوله تعالى: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}. صدق الله العظيم.
وفي الختام أخشى على نفسي من جموح في التطلع إلى نهضة فكرية ينفض فيها الغبار عن فكرنا من أوحال الغائية المقيتة، حيث سيطرت على ألمعية الفكر الناصح وألبسته لبوس النفعية وأسست لتحويل الغاية إلى وسيلة أو أداة لانقلاب أخلاقي مدمر لكل ما بقي من إنسانية الإنسان وشعوره القويم بغاية وجوده.
بقلم: أبي ولد محفوظ