وقد كنت أرجو أن تعيش وإن أمتْ ... فحال رجاء الله دون رجائيا
"نضَّرَ الله وجهك يا أبتِ ، وشكر لك صالح سعيك ، فلقد كنت للدنيا مذلا بإدبارك عنها، وللآخرة معزا بإقبالك عليها، ولإن كان أجلَّ الحوادث بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رزؤك، وأعظمَ المصائب بعده فقدك، إن كتاب الله ليعد بحسن الصبر فيك حسنَ العوض منك، وأنا أستنجز موعود الله تعالى بالصبر فيك، وأستقضيه بالاستغفار لك، أما لإن قاموا بأمرالدنيا، لقد قمت بأمر الدين لما وهى شّعْبه، وتفاقم صدعه، ورجفت جوانبه، فعليك سلام الله توديع غير قالية لحياتك، ولا زارية على القضاء فيك "
هكذا نعت أم المؤمنين صدّيقها وهكذا أنعيك .
يتعاظم شيء في صدري ويلجمه شيء آخر يتنافسان في مساحة أضيق من حزن وأرحب من حضن أبٍ دافيء .
وكلّما فكّرت في حجم المصاب تخاذل في داخلي التعلق بالدنيا واستعذبت الرحيل وأيقنت أن لا جدوى بعد ساعة رحيلك في اكتمال المباهج ؛وأدركت أن عرج الروح يمنعها الوصول إلى مظان الفرح قبل ازدحام أهله وخاصّته .
أدرك جيدا أن الأحزان ليست سواء ولكن هذه والله أمها جميعا، لكنها معامع في الروح لا ينتصر فيها الا ذو حظ عظيم!
ولا تزال المواجع تترى على النفس فتهذبها وتلجم طيشها وتنشر الهدوء في جوانحها، هو ديدنها في الجلْد بسياط الفقد حتى تتكشف حقيقة الزوال وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى!
ولولا بذر رحمة في طين الخلق لتكشفت حجب الأرواح عند الفزع الأول؛ وانهالت العبرات قتّالات لا تستسلم لقدر ولا يستقيم لها اعوجاج في مراتع الألم .
والعزاء أن الأجر يستظل بعظمِ المصاب وأن صفعات الحياة متفاوتة في القوة والتوقيت.
وأكبر عزاء من ذلك هو علامات سعادة الراحلين، وقد كان أبي -إن شاء الله -سعيدا.
كان دعاءه دبر كل صلاة: اللهم طيبنا للموت واجعل راحتنا فيه. فكانت رائحة المسك حال وفاته تعج من جسده، وأنا أنهال عليه بالتقبيل، وألثمه لثمة مودّع عاجز يستجدي قدر يصم آذانه فلا يعير استقداما ولا استئخارا.
كان القرآن سكونه وسكوته وحديثه وثراء مجلسه، فكان نعشه محاطا بنور في بيت الله الحرام، وهو يتلحف البياض: رداءه الذي لم يبغي عنه بدلا في الدنيا.
وكانت لازمته في الدعاء: اللهم من نعيم إلى جنة. فنعاه إمام الحرمين بما يمتلك من الصفات من الآية السابعة في سورة الإنسان. ولا تجوّز على الله في مآله، إنما كان أبي يقول كلما سأله سائل: هي أمانات يبعثها الله لعباده على يدي، ليس لي شيء منها ولا أملكها. فكان رمزا للإنفاق دون جحود ومنة.
توفي ليلة الجمعة، وكان يتمنى الدفن بالمعلاة في حياته، وحقق الله أمنيته وجاور أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجه خديجة بنت خويلد وصحابته رضوان الله عليهم.
كان آخر حوار جمعني به عندما أطلق علي لقب سيدة النساء، وأخبرته بعد ذلك أن الآباء لا يمرضون. لم يكن أبي فقط. كان رجلا عظيما شهما مضيافا كريما، وكان طودا يظلل على ما شاء الله من عباده!
سأبكيك ما فاضت دموعي فإن تغض ... فحسبك مني ما تكن الجوانح
وما أنا من رزء وإن جل جازع ... ولا بسرور بعد فقدك فارح
لئن حسنت فيك المراثي بذكرها ... فقد حسنت من قبل فيك المدائح.
اللهم اغفر له وارحمه، ويمن كتابه ويسر حسابه، ووسع له في قبره وحشره ونشره .
#شكر_لا_ينتهي
إلى كل من هبطت على روحه لوعة الفقد واجتاحته فجأتها ، إلى كل من لجأ للدعاء وكل من كتب ووصل ، إلى كل من تغمد حرفه هبّة روحي وربّت عليها بشفاقة وحنو .
إلى من وقفوا معي على مدار جزء اللحظة وحاولوا مسايرة جنوح روحي وجزعها فكانت كلماتهم راتقة لتصدّع كبد ملتاع وكانت حروفهم وسؤالهم مسندا لأكتاف يهزمها الإرتخاء وهي تخوض أعتى معارك اليأس .
إليكم جميعا كل باسمه ووسمه وصفته .
بالغ الإمتنان وأفخره، لا أراكم الله مكروها وحجب عنكم سوء القدر بفضل منه؛ وهيأ لكم أسباب التوفيق والسؤدد.