قصتي مع الشيخ والعلامة عبد الله بن بيه

جمعة, 03/16/2018 - 18:32

كنتُ كأي شاب مسلم وذا توجه إسلامي بعيدا عن مزايدات الأيديولوجيا أو مضايقاتها يشغلني حال العالم الإسلامي وأفكرُ في واقعه الصعب وفي ما يتكالب عليه من الخطوب وكيف نتعامى عن العدو الخارجي وننشغل بالخلافات الداخلية، فها هي سوريا قد قُسمتْ وتآكل فيها المتقاسمون والجميع يتفرج تارة يكفرُ هذا ويفسقه وتارة يخونه ويقصيه ويمنعه حق الانتماء، وكذلك العراق ما بين مدٍّ طائفي مقيت وحروب عقدية مدمرة لا يعرفُ أحد منشأها رغم غرابته ولبس أصله،

ولبنان ذلك البلد الذي يعيش في عمق هدوئه المأسور البدر ويتخطّفه رغم قساوة الظروف أريج نسيم بحره العليل السارق ، لا يمكن أن يستقر فيه حكم ولا يمكن أن يهنأ فيه نظام ولا وفاق وليس كل هذا من عداوة الناس للناس بل إن الأمر مدعوم بأشياء خفية لا نعرف التعامل معها ولا نعرف هل يجب أن تواجه بالعنف أم بغيره ، ناهيك عن حال فلسطين الذي يندى له الجبين ومن ثم تأتي ريحٌ أخرى عاتية وتعصف بهدوء الخليج وتكاد تفجرُ فيه أزمة لن تطيقها الأمة مطلقا ،

وأفكرُ في سبل التخلص من هذا كله وتارة يشغلني الوضع الخارجي عن القضايا الداخلية والأجندات المفروضة قسرا على الأنظمة التي لم تكن في حسباني ولا أكفرُ أحدا لكن أريد أن أسمع كلاما يهتمُ بقضايانا الأولى وبمشاعر المسلمين كي أتمكن من شق طريق مخالف أو فهم أنجع السبل ، وأظن في تارات أخرى أن ما يؤخذ بالعنف لا يسترد إلا بالعنف مع جهل مطلق لما بين القوتين من فروقات ، فقوتنا حاليا معدومة وقوتهم يغني حالها عن السؤال عنها لكن الغيرة تجبرني على اعتبار أن الموت أفضل من الحياة وتبيّن لي لاحقا أن الموت تعني الضياع وأن الحياة هي المطلب الأصل وبها يمكن أن يصنع الأمل والرجاء ، وطبعا كان وراء كل تلك الوساوس والتوجسات والمشاعر الزائدة زخم من التحريف والتبديل والتسويغ لم أدر عنه وأعِه إلا فيما بعد ..

ولم استوعبُ مطلقا أن يجلس رؤساء وممثلي 55 دولة إسلامية في قمة الرياض الإسلامية صيف 2017 أمام الرئيس الأمريكي دولاند ترامب وينظر لهم عن الإسلام المتطرف والإسلام المعتدل ثم يذهب ونحن بلقائه مفتخرين ، وطبعا كان كل شيء يبدو منطقيا بالنسبة لي إذا ما نظرتُ إلى المواكبة الإعلامية الكبيرة للحدث ولما بعده ، لا أخوِّن أحدا من جميع المؤتمرين حينها لكن كنت أبحث عن أجوبة عندما أقف مع نفسي بعيدا عن ما يصاحبُ كل هذه الأحداث من زخم إعلامي موجه في الأساس ،

وعلمتُ أن الشيخ عبد الله ولد بيّ كان حينها في الرياض ونتيجة لحسن ظني به ولكثرة ما يحيطُ بي من الشكوك والتوهمات قررت الذهاب إليه عند أول مجيئ له للعاصمة نواكشوط ، فتوجهتُ إلى بيته وحدي ولقيتُ أحد أبنائه في المنزل وفيه عدد لا بأس به من الناس ينتظروه مثلي فسألني عن حاجتي فقلتُ له جئت من أجل توجيه أسئلة ما للشيخ ، لا أرى نفسي كبيرا ولستُ معتزا بها إلى غاية الغرور لكني أمرئ يحبُ البحث عن جميع ما استشكل له فقط لعلني أهتدي أو اقتنع بما أنا عليه ، وعندما دخل الشيخ عبد الله المنزل وقف الجميع وسلم عليه وبعد ان جلس أشار إلي الأخ بأن أتوجه إليه وأن أسأله عن ما أريد ففعلتُ وسألته عن أشياء تتعلق كلها بالأمة وبمنهجها وبحالها سياسيا وفكريا وقلتُ له فقط إني أريد أن اقتنع لأهتدي ،كانت الأسئلة في غير محلها طبعا لكن كان رده حكيما ، وقال من تريث وأحسن النية واجتهد سيهتدي طبعا ، وبدأ يوجه إلي أسئلة أخرى وانتهى حديثنا هنا ، وكانت الرسالة التي وجه إلي حسب ما فهمت أن أحسن النية واجتهد في البحث وسيوفقني الله إن كانت نيتي حسنة ...

مرت أيامٌ وجاءت أخرى وقرر المركز الموريتاني للدراسات والبحوث الإنسانية "مبدأ" أن ينظم ندوة قراءة في كتاب الشيخ عبد الله ولد بي "مشاهد من المقاصد" وكان العلامة ولد محمد المختار ولد أمباله هو من يقدم ورقة القراءة ، وأصغيتُ بتلهف علني أجد ضالتي وكانت كلمات العلامة ولد أمباله عن المقاصد وعن فهمها واستنباطها وكيف تعامل الخلفاء معها وكيف تنازلوا عن جزء من حكم الشرع من أجل حفظ المصلحة الأصل وكيف يبيّن الشيخ في كتبه بين الأصل والجزء ويحاول إزالة اللبس عن العلاقة التي تربطهما ببعض ؟ تصل قلبي وتسكنه ولم يغب ذهني لحظة عنه وهو يسترسل ويحلل فهم الشيخ للواقع والنصوص وتعامله مع المفاهيم التي يعتبر أنها أكبر معضلة تواجه الفكر الإسلامي ، وكأني أمام أنموذج جديد ومنهج متجدد لم أسمع عنه في حياتي وله من الحلاوة والمنطقية ما يكفيني دون غيره ..

قررت البحث عن بعض كتبه لعلني أطلع على هذا المنج أكثر وأسقي نفسي من معالم هذا الفهم فوجدت عند أحد طلابه مشكورا مجموعة من الكتب فيها تنبيه المراجع ومشاهد من المقاصد وصناعة الفتوى ، ويعلم الله أني قد اطلعتُ على جوهر ثمين قلّب نظرتي للأشياء وجعلني أعيد قراءتي لها حسب إملاءات فهمٍ جديد مختلف عن فهمي للأمور السابق ، فالمعطيات والأحداث التي استنبط منها الشيخ التجديد في إطار فهم شمولي للواقع ببيانه وإدراكه هي هي لكن فقط المقصد يحتاج عقلا وتدبرا والمفاهيم تحتاجُ تجديدا وتأويلا رصين يقف على ثابت صخري قادر على تعدي كل عواصف الواقع وتشويهاته للأمور ...

لكن وبعد أن تجاوزتُ إشكاليتي الكبرى في فهم مغزى مواقف الشيخ وفهم الاختلاف الذي يطبع فكره دون الناس وبعد أن أسرني فكره وأقنعني اعترتني إشكالية أكبر تتمثل في أفضل طريقة لتسويغه لكي يصل إلى البياض الأعظم من الناس والذين تتحرشُ بأذهانهم خطوبٌ عدة باسم الدين تخاطبُ مشاعرهم وهي منه براءُ هدفها الوحيد نيل مبتغاها ولو على حساب الأرواح وهي لعمري إشكالية أكبر ، فالمجتمع يحتاج تحصينا ولا يكفي الفهم والكلام والتنظير فقط ولا النوايا الحسنة بل لا بد من العمل من أجل إحداث السلم الذي هو مرتبة أولى للمشروع الفكري للشيخ عبد الله ولد بيّ .

نحن أيضا بحاجة إلى حرب على الحرب وعلى دعاويه كي نصل إلى السلم فالخطوب والوساوس التي تواجه الباحث عن الحق باتت كثيرة ومتشابكة ومتعددة تتشكل من الإعلام ودعاياته وأغراضه ووسائل التواصل الاجتماعي وما ينعكس فيها من وعيٍّ زائف طفولي عن مفاهيم العدالة والمساواة ،وهي أمور باتت تصنع الرأي العام وتوجه توجهات الناس إلى أشياء مدمرة أكثر ،إضافة إلى العوائق القديمة التي كانت تقف في وجه كل باحث عن الحق والمتمثلة في العادات والأعراف والتقاليد .

حفظ الله الشيخ عبد الله ولد بي ففكره واجتهاداته تستحق القراءة حقا والتمعن والتطبيق والسعي في الإحقاق والرفع.

Babemed52@gmail.com

 

باب ولد سيد أحمد لعلي

قصتي مع الشيخ عبد الله بن بيه (الإشكال، الفهم، الاستنتاج)