أسفار الاستفسار (كيف يكون الاستثناء قاعدة) أبي ولد محفوظ

سبت, 03/24/2018 - 17:15

إن مما عمت به البلوى في نظرنا القاصر بل وربما جهلا منا لمقاصد الشرع فيما أراد الشارع، لا يطمئن القلب إلا لما استقر ووجد أساسا ومبنى واضح المعالم في شريعة الإسلام. لا أقصد أبدا أن ما جاء في فقهنا من فتاوى لا يطمئن إليه القلب، ولكن لا يجوز مع ذلك أن يتخذ الاستثناء قاعدة.

وإذا كانت هنالك قواعد فقهية متقررة مثل: "الضرورات تبيح المحظورات" فإن هنالك أيضا ما يقيدها مثل: "الضرورة تقدر بقدرها". ليس هذا السفر من أسفار الاستفسار بحثا في المقاصد ولا القواعد ولا في الأصول، إنما يهدف إلى بيان محددات لأصلمسألة في الشرع وكيف تحولت الرخصة إلى حكم في مجتمعنا وكيف تصرف  الأنظار عن الأحكام الشرعية القطعية الدلالة وعن الاجتهادات أو تحويرها وتطويعها لمقتضيات لا تلائم ما أريد بها في الغالب من حيث التوسيع والتضييق.

لا يعني هذا الاجتهاد طبعا وهو أصل من أصول الدين، إنما المقصود به  أن هذه المسألة فيها من النصوص والأدلة ما يجعل نقاشها محسوما، بحيث لا يمكن نقاشها من جديد إلا في حدود ما تقرر، والذي نريد هنا من هذا السفر من أسفار الاستفسار إنما هو استفسار حول الممارسة العملية التي نمارس في حياتنا اليوم حتى نتبصر، إذ نحن مطالبون بالوقوف عند الأوامر والنواهي، ليس بالسوية والتخيير طبعا،  إنما على وجه الإلزام بالترتيب، حيث النواهي أولا والأوامر ثانيا حسب الاستطاعة، بدليل ما رواه أبو هريرة  عبد الرحمن بن صخر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما نهيتكم عنه فاجتنبوه وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم واختلافهم على أنبيائهم"، رواه البخاري ومسلم.

وهذه الاستطاعة محكومة أو منظمة بمقتضيات شرعية واضحة المعالم، لا مراء فيها، وإذا كنا نعرف ما جاء في الأحاديث من النهي والوعيد في أخذ شيء عن تأدية العبادات وتعليم القرآن ونعلم كيف أجاز الفقهاء وفقهاء المالكية خصوصا أخذ الأجرة عن الإمامة والأذان، حيث أوجدوا له آلية اعتبارا للمصلحة (ترتيب ما لا يترتب أو إلزام ما لا يلزم)، فإن ذلك يبقى حتما في حدود الضوابط الشرعية المتقررة فقها ولا يجوز تجاوزه إلى نطاق أوسع من النطاق المحدد شرعا.

وإن الأمة اليوم بلغت من الوهن ما لا يخفى وهذا من تداعياته، حيث أخبر الصادق المصدوق قال قائل يا رسول الله: وما الوهن؟ قال: "حب الدنيا وكراهية الموت"، رواه أبو داوود والبيهقي في دلائل النبوءة، و لكن نحن  مطالبون اليوم كما في كل يوم، أن نسعى إلى إقامة شرع الله في أرض الله ومطالبون كذلك بالاعتقاد الجازم واليقين الصادق بتحقق الوعد في قوله جل من قائل: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.

ونعلم جميعا أن الشرط هو ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من تحققه وجود ولا عدم لذاته، وحاصل الكلام هنا أن في مجتمعنا نحن أهل هذا المنتبذ القصي (موريتانيا) أصبح المتعلم يتعلم القرآن وعلومه لا ليعلمه ولا ليعمل به، إنما ليصبح إماما أو فقيها أو مفتيا، وليت الأمر كان كذلك وإنما للميزات التي يتمتع بها كل هؤلاء في مجتمعنا،  بل ربما ليصبح قاضيا أو وزيرا... أو... ويجلب بعد ذلك بخيله ورجله ليصل إلى شيء من ذلك، وهنا أريد أن أذكر بما جاء في الحديث الشريف الذي أخرجه مسلم في صحيحه: "... ورجل تعلم القرآن وعلمه فيؤتى به فعرفه نعمته  فعرفها فقال: فما عملت فيها؟ قال تعلمت العلم وعلمته وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال هو قارئ، فقد قيل ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار..."، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. ومن باب أولى إذا كان تعلمه لينال به الدنيا، وفضلا عن ذلك فكل عمل لا يخلص فيه العبد لمولاه جل وعلا فهو مردود عليه ومن ذلك الأذان وإمامة الناس، لأنها عبادات جليلة لابد فيها من الإخلاص لأن شروط لقبولفي كل عمل إخلاصه وصوابه وإخلاصه يقتضي أن يكون لوجه الله تعالى وليس لمنفعة دنيوية أحرى أن يكون ثمنا في عقد بيع تام الأركان من حيث الإيجاب والقبول والمحل والسبب.

فالله سبحانه وتعالى حذر في محكم كتابه من ذلك كله، فقال جل جلاله: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ}، فهذه الآية تدل على أن الإنسان إذا كان يعمل العمل للدنيا فإنه عمل باطل لا يتحقق فيه الشرط الذي ذكرنا سالفا وهو إخلاصه لله عز وجل، وفي الآية الموالية توعد سبحانه وتعالى من يفعل ذلك، في قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ}.

ولأن كل المميزات الدنيوية هي قادحة في شرط الإخلاص يجب الابتعاد عنها، ثم إن العلماء جزاهم الله خيرا بينوا أنه إذا كان المأخوذ على ذلك من بيت المال وللاستعانة على الطاعات، ولأن الأصل فيها فرض كفائي جاز، ولكن الذي عندنا اليوم اتفاقي يتنافى مع هذا، وهو أن الإمام والمؤذن إذا أعطي أذن وصلى وإن لم يعط امتنع وهو أمر ظاهر لا يحتاج إلى دليل، مما يجعل الاستفسار يجد مكانه ومبرر وروده.

فإن قال قائل إن هذا من باب المصلحة المعتبرة شرعا وهي التي جاءت الأدلة الشرعية بطلبها وأن هذا يدخل في باب المصالح المرسلة لأنه كفائي وأن متطلبات الحياة اليوم ونقص الإيمان يجعلان من هذا الفرض الكفائي مصلحة مرسلة، لأن المصلحة المرسلة إنما هي المصلحة التي تتقرر لجلب نفع أو دفع ضر أو رفع حرج، وكلها يمكن أن تترتب هنا لأن دفع الضر آكده عدم قيام الجماعة في بيوت الله وجلب النفع آكده ما ينفع الناس في مآلهم الحتمي بعد الممات ورفع الحرج وهو الذي قد يكون له علاقة بأخذ مقابل عن الأذان والصلاة بالناس وتعليم القرآن، وإذا كانت مصالح الناس لا تنحصر ولا تنتهي بل هي متجددة بتجدد أحوال الناس واختلافهم باختلاف الجهة التي  يعيشون فيها وحتى لو كان ذلك في زمن واحد، وإذا كان اعتبار المصالح أيضا يتنوع حسب الأصل الذي تعود إليه باعتبار قوتها، وهذه الأخيرة تنقسم إلى المصلحة الضرورية والمصلحة الحاجية والمصلحة التحسينية، فإن قلنا بدخول كل ذلك في الاثنتين الأوليين الضرورية بالنسبة لعموم المسلمين في  حاجتهم إلى من يتولى هذه المهمة والحاجية بالنسبة لبعضهم ممن يمارسها، وتجاوزنا كل ما يرد في هذا الباب، فإننا سنصطدم بالضرورة بالضوابط التي لابد من تحققها للأخذ بالمصلحة مثل: أن لا تكون المصلحة مصادمة لنص أو إجماع وهذا غير متحقق فيما سبق وكذلك أن لا تعارض مصلحة أرجح منها أو مساوية لها.

وهذا يقودنا إلى الحديث عن إقامة محاظر نموذجية هنا وهناك، الهدف منها الكسب وبطرق مختلفة لا أحتاج إلى بيانها، فيجب أيضا أن نعلم ونستحضر ونبقى دائما ذاكرين ما ورد في ذلك من الوعيد في الأحاديث النبوية الشريفة، مثل: حديث عبادة بن الصامت رضي الله، إذ قال: "علمت ناسا من أهل الصفة الكتابة والقرآن فأهدى إلي رجل منهم قوسا، فقلت ليست بمال وأرمي بها أو عنها في سبيل الله عز وجل، لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأسألهنه فأتيته فقلت: يا رسول الله رجل من أهل الصفة أهدى إلي قوسا ممن كنت أعلمه الكتابة والقرآن وليست  بمال وأرمي عنها في سبيل الله، قال: "إن كنت تحب أن تطوق طوقا من نار فاقبلها". وهو حديث حسن لطرقه أولا ولشواهده ثانيا، وقد صححه الألباني في صحيح سنن أبي داوود ورقمه 3416، والحديث نص في تحريم أخذ الهدية على تعليم القرآن والأجرة من باب أولى، وهنا أيضا يجب التنبيه إلى أن الأذان والإمامة في معناه، لأن كلا منهما عمل يتقرب به إلى الله تعالى.  وقال أيضا الحافظ بن حجر في الفتح: إن حديث عبد الرحمن بن شبل رضي الله عنه، كان سنده قوي وصححه الألباني أيضا في الصحيح الجامعي ورقمه: 1168، والحديث هو: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إقرأوا القرآن واعملوا به ولا تغلوا فيه ولا تأكلوا به ولا تستكثروا به، أو كما قال، رواه أحمد والطبراني وغيرهما، وقال الهيثمي رجاله ثقات.

أما جوازه للحاجة فلا حاجة إلى ذكره أو ذكر دليله، فقد دل عليه الدليل والتعليل، فالدليل قوله تعالى: {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ}. والحديث الشريف الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: "... ملكتكها بما معك من القرآن..." فجعله صداقها، حيث كان هذا الرجل محتاجا لزوج وهو فقير لا يملك صداقا، أما التعليل فلقلة من يقول بالأذان والإمامة تطوعا أحرى بتعليم الناس وتنصيب النفس لذلك لوجه الله تعالى وانشغال الناس بتحصيل معايشهم. ولكن معرض الكلام هو كيف يكون الاستثناء قاعدة أو قل إن شئت كيف تكون الغاية وسيلة لوسيلة؟

أبي بن محفوظ