مدينة انيور : وادُ الخيرِ والخيلْ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

ثلاثاء, 04/17/2018 - 21:51

من سنين خلت وأنا أفكر جديا في زيارة الحَضرة الشريفة لآل حماه الله في مدينة انيور المباركة، وكلما هممت بالأمر حال دونه حائل، أو شغل عنه شاغل، لكن القلب أو قل الروح بقيت معلقة بتلك الرحلة حتى هيأ الله الظرف المناسب لذلك، وصلنا مدينة انيور يوم السبت14/04/2018 زوالا إلى منزل الرجل الفاضل المفتاح "بالا" BALLA فاستقبلنا وأهلَه أيَما استقبال يحسنون أنواعا من الخدمة والأُلفة، وشكولا وألوانا من الضيافة وتوفير الراحة لضيوف "حمى الله" لم أرَ مثيلا ولا مقاربا لها لدى أي مشيخة كنتُ زرتها، بدؤوا ترتيبات لقاء الشيخ منذ لحظة قدومنا، ولكن للمسافر بقية يومه، ولعل "بوي" لايود التعجيل باللقاء حتى نأخذ قسطا من الراحة، ويصل إحسانه مداه بواسطة وكلاء الضيافة أولئك.
مع الغروب تمشينا في مدينة انيور التي تحتفظ - فيما يبدو - بالنكهات الأصلية التي كنت أَجدها غَضةََ طريةََ في كل شيء بوطني الحبيب قبل تحرير تجارته ووضع الحبل على الغارب لتجاره، تمشينا فلاحظت أن المواطن "المالي" في انيور وما حولها يعيش على قدر طاقته فيقتني من الأشياء بحسْب قدرته الرائية - لا بحسب ما يشتري فلان لأهله - كما هو التقيد في بلادي .
بتنا خير مبيت نسامر الفصحاء والبلغاء والقصاصين والرواة، ولم ينقطع صوت الذكر، ومديح المصطفى صلى الله عليه وسلم من آذاننا، يذكر القوم راجلون وقعودا وعلى جنوبهم التي أنِفت المضاجع في سبيل ذكر الله وتسبيحه والصلاة على نبيه الكريم .
إمعانا من الشيخ محمدو في إكرامنا أرسل إلينا دعوة رسمية لحضور مهرجان سباق الخيول بالملعب المحلي، فحُجِزت لنا مقاعد بالمنصة الرسمية بالصف الأمامي - وللأمانةفإن متابعة السباق في القنوات لا يعطيك الصورة الحقيقة ولا المتعة الحَقَةَ للسباق كما هو في الواقع، أحتفى الناس بمقدم الشيخ وآله الشرفاء وضيوفه بهتافات يغيب عني بعضها وأُدرك منها ما جَعَلني فخورا بنفسي حيث كنتُ ضيفا على مثلِ هذا الرجل الذي ينزل من قلوب مريديه هذه الدرجة من الاحترام والتقدير.
كانت لجنة الإشراف على السباق من الأطر الرياضيين الماليين غاية في اللباقة والكياسة والاحترام، وقد شاركونا في تسليم الجوائز على الفائزين الأُوَل، كان الجو مفعما بالحماس وبالسرور وبالروح الرياضية أيضا.
قفَلْنا عائدين إلى "الدائرة" أو "الزاوية" أو المسجد فصلينا المغرب وبدأ ذكر الله وترديد المدائح والابتهالات الموحية المُحْيِيَة للقلوب قصائد شعرية تصوفية منها ما هو معروف مثل "نونية الجَيلي" ومنها المحلي الذي لايعرفه سوى المداحين المريدين الذين يرددونه آناء الليل وأطراف النهار، كان موعد المقابلة مع الشيخ قد حان بين المغرب والعشاء، واسترسل المريدون في الذكر فقلت في نفسي لعل الشيخ نسي أو غَفل ولكن شيئا من ذلك لم يحدث، ففي تلك اللحظة أشار عليهم فأمسكوا عن الابتهالات وأعطى إشارة فهم منها المشرفون على الحلقة أنه قد حان دور الزوار والضيوف وأصحاب الحاجات.
الشيخ محمدو "بوي" بن الشيخ أحمدو حماه الله التيشيتي وطنا الشريف نسبا التيجاني الحموي طريقة الموريتاني حقيقة، المالي مهاجَرا، قائد فذُُ من الطراز الأول، خارق الذكاء لدرجة العبقرية، يسوس مجتمعا - أو قل مجتمعات - غاية في الصعوبة والتعقيد ومع ذلك فمن حسن إدارته لها ومعرفته بمفاصلها لا يتعامل معها بغير الإشارة فلا تكاد تسمع إلا همسا، حضْرة الشيخ غاية في التنظيم والدقة والقبول، يتمتع بقدرة فائقة على الإنصات والقراءة، القدرة على الإنصات تجلت عندما كنت أول المتدخلين - ربما الترتيب أبجدي - فأنصت إلى نص من الشعر الحساني (طلعة وكاف)

امْجينَ للشيــــــــــــــــــــخْ انْزورُ **** منْ شُـــــورْ الصَنْكه للنْيُورُ
محمدُو بــــــــــــــــــــــــيهْ اندورُ **** من مُلانَ تَصلحْ لهْمــــــومْ
برْكتْ تقـــــــــــــــــــواهْ وُ برورُ **** وصْلاةُ وزْكاةُ والصــــــومْ
الانْفاقْ الِ فيـــــــــــــــــــهْ إِحورُ **** عيْنيــــــــنْ الْجَ لنْيورْ اليومْ
زايرْ مـــــــــــــــــا يرْجعْ لدشورُ **** لعيون ولا أطارْ ولاَ شـُــومْ
محَمَدُ شيـــــــــــــــــــــــخْ ابحورُ **** فصَّلاحْ اغْريكْ اعْلَ العَـومْ
بُوهْ الشيْخْ أحمدْ فدْهـــــــــــــــورُ **** حاربْ الاسْتِعمـارْ المشؤومْ
واحدْ غيَّــــــــــــــــابُ و حضورُ **** جاهدْ وَحدُ وامعـــــاهْ الكومْ

الشيخ أحمد حمــــــــــــــــاهُ اللهْ **** صَدرُ فالصلاحْ التَّيـــــــــدومْ
مُلانَ طــــــــــــاهْ فذاكْ الْ طاهْ **** السرْ ومفتاحْ العلـــــــــــــــومْ

طلب الشيخُ إعادة النص رغم هدوء الساحة، فأعدته وبعد الانتهاء من قراءته علَّق قائلا " لافُضَ فوك" أما القدرة على القراءة فقد تجلت في أخذه المصباح وقراءة النص بإمعان وتأنِِ، وتصفح الكتاب الذي أهديته منه نسخة المؤلف (الأولى) فتوقف عند بعض فقراته وأطال النظر فيها، حتى شك بعض المريدين في قدرته على القراءة دون النظارة فناولها إياه، أبدى الشيخ اهتماما كبيرا بالشعر وتفاعل معه وعلق عليه، وتجاذب معنا أطراف الحيث بأسئلة واستفسارات تَنم عن إلمام بحقول معرفية مُعينةِِ، وعمق في تكوينه الشخصي نابع من الخبرة بطول مجالسة العلماء والمثقفين والقراءة حسب اعتقادي.
صلينا العِشاء مسبوقا بحلَقَة ذكر خاصة بليلة الاثنين من كل أسبوع، بدأت مراسيم الوداع وأصبح واضحا أن الشيخ مصرُُ على أن لاتكون قصته معنا كقصة الوالي مع الشاعر الذي مدحه فلم يصله منه عطاء فاستشكل ذلك، فقال له الوالي "سررتنا بكلام فسررناك بمثله" سرَنا الشيخُ بكلام بل وحديث غاية في الإمتاع والمؤانسة لكنه أصر أيضا على أن "يَسُرنا" بأشياء أخرى على مقدار مهديها.
وعلى الرغم من قصر مدة الزيارة فقد تآلفت النفوس، وتواشجت الاواصر، وأصبحت القلوب لاتقبل براحا فأبدت من صعوبة الوداع ما لم تُخفه الوجوه ولا الكلمات قبل وعند وبعد الرحيل.