الحقيقة (نواكشوط) يندفع هذا الصبي الحسن، الوادع وقد تفحمه الخوف والهواجس، وعلت الأصوات والنحيب من حوله ولا يتبين على الفور ما الخبر، فيفتش بعينينه المغرورقتين دمعا وألما عن أمه أو أحد إخوته، ويرمق أمه فيثوب إليها ملحا ومتعلقا: أين أبي؟؟! أأبي بخير؟ والام واجمة تعتصر الحرقة واللوعة، وتهدّئ الصبي الذي يتلوى التياعا وموجعة على فراق أبيه.
إن لهذا الصبي أن يحزن و يغتم لمضيك، إنما عليه أيضا أن يفخر أنك كنت أباه.
إن على هذا الصبي أن يتذكر أنك كنت خير أصحابك و رفاقك، فقد أخرجك الله من بينهم فأظهرك عليهم و أحسن ذكرك من بينهم، لقد كنت فيهم فأخذت بأسباب العلم، ثم رويدا أخذت بأسباب العمل، و خرجت لتحكم و تتولى فحكمت و توليت بالحق، غير مجانف لإثم و لا متبعا لهوى ولا قاصدا لمظلمة أو حيف.
إن على هذا الصبي أن يتذكر أن أباه لم يلبث إلا قليلا حتى زارته الوزارة، فصعد إلى هذه الشرفة، و حطّ في هذه المرتبة، فما زادته إلا تواضعا و سكينة و رزينة، فطفق يكيل بكلتا يديه لهذا و هذه و هؤلاء و أولئك و كان هو في منصبه مصرا على اتباع اليسر و اجتناب العسر، و تقريب الخدمة و تفعيل الادارة و بعث الحيوية و طرد الرتابة. لقد كنت ربما وحيدا، وحسبك أنك عملت قدر جهدك، و قدر طاقتك، فليس من تقصير ولا لوم عليك.
إن على هذا الصبي أن يتذكر أو يذَكّر أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، لقد تقلبت الاحوال و تبدلت الايام، وخرج الذي ولاّك و وزّرك وسودك، فما كنت من الذين تسرعوا التبرؤ ولا التلون، و لبثت رويدا في حزبك و أصحابك ولم تأخذك حمى التبدّل ولا التقمص. ثم دارت الايام غير بعيد فإذا نحن كما كنا لم نخرج من الدائرة التي توهمنا أننا خرجنا منها، لقد شبه لنا فقط، ثم أمسك هؤلاء بالدولاب مباشرة من دون قفازات و لا أشباه. فنحن أمام الأمر الواقع من جديد و بالقوة و القهر.
و تقدمت رويدا تأخذ بحبال السياسة و حبال الاسباب، فنلت مكانتك و استرجعت رتبتك، إنما هذه المرة في جانب التكوين و التدريب و تخريج الأطر و تأهيل الطاقات، لقد ععهد إليك لإدارة هذه المدرسة التي كنت أحد تلامذتها ذات يوم، لقد نفضت عن هذه المدرسة الغبار، لقد ألبستها الجديد، لقد تزينت بأبها الحلل، لقد انبعثت فيها الحياة و دبت فيها الحركة في هذه الايام المعدودات التي أخذت فيها أزمتها.
لقد انشغلت و من أول يوم بالاصلاح فألحقت القضاء و الصحافة بالمدرسة و أخرجتها الى النور في نظامها الداخلي و هيكلتها الجديدة، و تخرجت في أيامك دفعتان الاولى العام 2011 و الثانية 2014. لقد كان لكاتب هذه السطور الحظ لأن يعرفك و ويقف على شواهدك من خلال هذه السنين الثلاث التي قضيناها في عهدك و تحت إدارتك تماما كما هو الحال بالنسبة لبقية الدفعة الثلاثمائة إطار التي تخرجت في شهر يونيو من العام الماضي.
إن على هذا الصبي أن يتذكر أن شعبة الكتاب المتخرجة من المدرسة لتحسب أن هذا الأب أباها و أنها تماما كمثل هذا الصبي في التحسر و الاضطراب، و لتحسب أن أنها تيتمت و تقصمت لمضي هذا الاب الذي بذل الجهد و أوفى العمل، و كان خير أب و أشفق ناصح.
و ليس هذا فقط، على هذا الصبي أن يتذكر أيضا أن أباه فتح يديه و ذراعيه و استضافنا ـحنيناـ كما يضيُّف الأبناء العائدون، ففتح لنا قلبه و عقله و استمع لطموحاتنا و آمالنا و أسدى النصح و وعد بالبذل و إسماع صوت الأطر الخريجين و الدفاع عن حقهم، لقد بذل كل ما في وسعه و طاقته حتى تأخذ هذه الدفعة المنتقاة من الكتبة و كل التخصصات )قضاة إداريون مدنيون و ماليون و مستشارون( مكانتها اللائقة و تشغل حيزها المناسب.
إن على هذا الصبي أن يعرف أنه ليس في حزن أو هم وحده، فكل من عرف هذا الاب أو كان على اتصال معه او معرفة به، بل كل موريتانيا في دهشة و التياع لفراق أحد أبنائها المخلصين الذين خدموا بوفاء و وطنية.
فإلى الله نشكوا حزننا و غمنا، وإلى هذا الصبي و إخوته و الاسرة الكريمة و كل الوطن نقدم تعازينا و مواساتنا و علينا و عليهم أن يحمدوا الله أن كان هذا الرجل فيهم و منهم، و قد ترك وراءه أسبابا للقوة و الفخر و التواضع إن يحفظوها فقد حفظوا الخير و العطاء و النبل، و الله المستعان و إنا لله و إنا أليه راجعون
الابن الكاتب الصحفي: سيد أحمد ولد أعمر ولد محم