"منينه بلانشيه".. وفن الكتابة وفق الطلب..!! بقلم الكاتب والروائي أحمد ولد الحافظ

ثلاثاء, 08/27/2019 - 08:57

النقد ليس تجريحا، والاستدراك ليس تخطيئا، والملاحظة ليست تشهيرا، والمراجعة ليست تربُّصا، والنّقاش ليس سوء أدبٍ.. وأمَّة تسعى إلى الصدق مع ذاتها؛ بناءً أو ترميما.. انطلاقا سليما، أو كبحا لجماح "تراكم" الأخطاء؛ يجدر بها أن تُمارس كل تلك "الظواهر" دون حرج، أو تحسُّس.. وأول المسؤولين عن خلق هذه الثقافة؛ ومن ثم قبولها، والتعاطي معها هم "المثقفون" لأن ذلك يليق بهم..!

إن الحوار العلمي الرصين؛ الذي يأخذ من المنطق والحجة دليلا وبرهانا؛ حقيقٌ به أن يخلق معارف علمية حصيفة؛ أو على الأقل؛ يخلق لها أرضية صلبة متزنة.. ومن هذا المنطلق، وهذه الرؤية؛ أريد لهذه القراءة ـ في رواية "منينه بلانشيه" للكاتب والروائي محمد ولد امَّين ـ أن تتنزل.. لذلك؛ لا تستغربوا أن هذه القراءة البسيطة؛ تتكلم من زوايا مغايرة؛ للزوايا التي عولجت منها الرواية من قبل؛ والتي كانت ـ في الغالب ـ مجاملة مبالغة..!

في نهاية سنة 2014؛ وبعد شهور عدة من الترقّب والتشوق؛ حصلتُ على نسخة من رواية "منينه بلانشيه" والتهمتُها بشغف؛ وليتني ما فعلتُ! أغلقتُ دفّتها اليسرى في وقت قصير؛ لأنني كنت مستعجلا؛ لإطفاء عطشي.. وضعتُها جانبا؛ ولا شيء في جعبتي؛ غير سؤال مركّب عريض: أين اختفت لغة "حسن مختار" الفاتنة؟ أين تلاشت تأملات "حسن مختار" العميقة؟ أين التداعي "الثقافي" الباذخ لـــ"حسن مختار" ؟!

لم أتعب نفسي كثيرا في البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة؛ أو لعلي تمنيتُ أن أنسى "الموضوع" موضوع قراءة "منينه بلانشيه" وندمي عليه.. ومع ذلك؛ دار في خلدي بعض الأجوبة الجاهزة، والانطباعية، والبسيطة.. أجوبة من قبيل؛ أن الأمر يتعلق بــ"الحسد" فأنا من أمة تقتصر ثروتها (حسب ولد امّين نفسه) على الحسد؛ وأنا لا أبرئ نفسي! وواردٌ ـ أيضا ـ أن الأمر يتعلق بـ"الحكمة" القائلة "إن المعاصرة حجابٌ"..!

مرّت الأيام؛ وبقي في النفس شيء من تلك "الأسئلة" وذات حوار مع مثقفة وكاتبة أردنية ـ حول واقع الرواية العربية ـ أثنتْ لي على رواية "ساق البامبو" للروائي الكويتي سعود السنعوسي.. قرأتُها بعد سنتين بالتمام والكمال؛ من قراءتي الأولى ـ والوحيدة ـ لـ"منينه بلانشيه" قرأتُ رواية متماسكة؛ تحكي ما أُريد لها حكايته.. تُوصل رسالتها واضحةً.. كلّ ذلك بلغة أنيقة بسيطة.

ما إن قرأتُ "ساق البامبو" حتى لفت انتباهي التّشابه والتّوارد "البيّن" بينها وبين "منينه بلانشيه" أو ـ على الأقل ـ تشابه الأخيرة معها؛ وهو شيء بدا لي غريبا؛ فــ"الخليج العربي" لا وجود له كثيرا في ذاكرة الكاتب والأديب "محمد ولد امّين" (على الأقل في البارز من آثاره) وإن كانت آثاره مضمّخة بالنّفس والروح المشرقي الآخر؛ بما فيه الثقافات غير العربية؛ مع افتتانٍ بالأثر الغربي "يكاد يقول خذوني".!

نتيجة ذلك؛ استغربتُ من هذا التشابه مع نص قادم من "الأطراف" وبكاتب (لمّا تأخذ شهرته كل ذلك) ويصغر "روائينا" بأكثر من عقد من الزمن! لم تكن الصّدفة؛ أو "التناص" أو "وقوع الكاتب على الكاتب".. لم يكن شيء من ذلك مقنعا لي بما يكفي؛ ليضاف سؤال آخر؛ إلى الأسئلة المتعلقة بـ"منينه بلانشيه" وهو: لماذا تُشبه "منينه بلانشيه" القادمة من مرافئ الأطلسي "ساق البامبو" الساكنة حيث تشرق الشمس؟!

وهنا؛ دعونا نلقي الضوء على بعض "التشابه" بين الروايتين؛ وبعض "سياقات" ذلك التشابه؛ لنرى دور "الصدفة" فيه؛ وهل يمكن ـ بالفعل ـ أن يكون "ذلك" كله؛ نتيجة تناصٍّ أدبي عابر!:

ـ تقع أحداث "ساق البامبو" على أرضية "مزدوجة" هي "الكويت" و"الفلبين". وذات الازدواجية؛ يعيشها "المكان" في "منينه بلانشيه" إذ تتنقل أحداثها بين "موريتانيا" و"بلجيكا".

ـ بطل "ساق البامبو" من أب كويتي، وأم فلبينية؛ يعاني "قلقا" وانفصاما في الهوية. وبطل "منينه بلانشيه" من أم موريتانية، وأب فرنسي؛ يعيش نفس القلق والانفصام.

ـ بطل "ساق البامبو" من أب مسلم، وأم مسيحية؛ يعاني "ازدواجية" في الهوية الدينية؛ فهو مسيحي في الفلبين، مسلم في الكويت. وبطل "منينه بلانشيه" من أم مسلمة، وأب مسيحي؛ يلعب ذات اللعبة؛ ويعاني ذات الشعور.

ـ كلا البطلين؛ جاء إلى الوجود؛ نتيجة زواج خارج على النسق الطبيعي؛ داخل المجتمعي الذي ينتمي إليه، وكلاهما تُشبه ملامحه ملامح أمه؛ دون أبيه.. وكلاهما عانى من "جدّة.

ـ بطل "ساق البامبو" الفقير عجز عن التكيف مع المجتمع الكويتي الغني؛ إذ ظل فقره بين ذلك المجتمع الغني يعزز المعاناة النفسية له؛ لذلك؛ قرر العودة إلى الفلبين التي تلائم فقره. أما بطل "منينه بلانشيه" الغني داخل مجتمع فقير؛ فقد استعاض عن كل "نواقصه" النفسية؛ بحياة مترفة داخل مجتمع جائع؛ من هنا؛ قرر العودة إلى موريتانيا والبقاء فيها أبدا؛ متغلبا من خلال ذلك على كل المعاناة والرفض.

ـ اشترك البطلان ـ أيضا ـ ثنائية الاسم؛ فبطل "ساق البامبو" يسمى في الكويت "عيسى الطاروف" وفي الفلبين "جوزي ميندوزا" وبطل رواية "منينه بلانشيه" يدعى في موريتانيا "محمد ولد خيبوز" وفي بلجيكا "جوزيف بلانشيه".

ألا ترون أنهما اقتربتا من بعضهما؛ واشتبهتا كثيرا..!

تداعى إلي ـ وبعد قراءتي لـ"ساق البامبو" وعلى طول العهد بـ"منينه بلانشيه" ـ الكثير من الالتقاء؛ الذي لم أكن أملك له تفسيرا؛ قبل أن يكتمل "التداعي" وأتذكَّر تأبين الأستاذ والروائي "محمد ولد امّين" للراحل الدكتور محمد ولد عبدي ـ جميل الذكر أبدا؛ آنس الله روضته ـ حمل التأبين من بين ما حمل رسالة من المرحوم إلى دار الساقي (ناشرة رواية منينه بلانشيه) يقترح عليها فيها ترشيح الرواية لإحدى الجوائز العربية الكبرى؛ والمقترح تعززه وتزكيه "شذرات" نقدية؛ من تلك القامة الأدبية السامقة.

تَخْلُصُ تلك "الشذرات" إلى أن "منينه بلانشيه" تستحق أن تتوج على إحدى تلك الجوائز.. ويغري الراحلُ أكثر "دار الساقي" واعدا بتعزيز "الشذرات" بقراءة نقدية مستفيضة في "الرواية" وهو شيءٌ في حقيقته مغرٍ (لا أعرف إن كانت "الساقي" استجابت أم لم تفعل! وإن كنت أعرف أن ترشيح دور النشر للجوائز لا يقوم ـ في الأصل ـ على الوساطة، ولا على الزبونية، ولا على الإغراء؛ فلديها ـ أي دور النشر ـ لجان تقييمية؛ هي من تبتُّ في ذلك؛ خصوصا إذا تعلق الأمر بـ"دار الساقي" دار الرواية العربية الأولى؛ لكن هذا ليس هو الموضوع بالضبط).

من خلال هذه الرسالة تمكنتُ من تبرير بعض ملامح التشابه والتوارد بين "منينه بلانشيه" و"ساق البامبو" ولماذا غاب ظل "حسن مختار" في "منينه بلانشيه" بل؛ لعل الأمر ـ أيضا ـ يجيب على سؤال آخر، يطرحه الكثيرون؛ وهو مدى مساهمة الجوائز الأدبية في "تطوير" الساحة الأدبية..!

وَشَت الرسالة أن "منينه بلانشيه" كُتبتْ لتُشارك في "الجوائز" الأدبية العربية فقط؛ ومن هنا بدأ الحرص على تمثُّل "الأنموذج" لدى تلك الجوائز؛ ليقع الاختيار على "ساق البامبو" الحاصلة على جائزة "البوكر" 2013؛ باعتبارها "أنموذجا" خالصا وصافيا لقيم وأذواق القائمين ـ من نقاد ـ على الجوائز الأدبية العربية "المشرقية" ومن ثم تتم "محاكاتها" منكبا بمنكب، وساقا بساق..!

لا تخلو عوامل الاختيار ـ هذه أيضا ـ من موضوعية؛ إذ تُتيح طبيعتها شيئا من "التخفي" يصعب معه؛ إن لم يكن يستحيل؛ اكتشاف ذلك "التناص" المقصود؛ والممارس عن سبق إصرار وترصد؛ فمع أن الكاتب "ولد امين" بعيد ـ أصلا ـ عن الشبهة؛ فالرواية "المحاكاة" قادمة من "أطراف" الثقافة العربية؛ ولا جسر ـ تقريبا ـ للتواصل الثقافي بيننا معها؛ حيث كان تواصلنا الثقافي مع "المشرق العربي" يقتصر على مصر وسوريا والعراق ولبنان.. عوامل كفيلة بغياب ورود التشابه ـ مبدئيا ـ من أذهاننا..!

المحاكاة الجلية ـ في اعتقادي على الأقل ـ مسؤولة عن الصورة "الباهتة" التي خرجتْ بها "منينه بلانشيه" والتي لم تكن تناسب "قلم" حسن مختار ولا "فكره" الذي استطاع أن يُرسِّخ في أذهان قارئيه كثيرا من احترامه؛ بل والانبهار به..!

مثّل اختيار "بلجيكا" مكانا لأكثر من نصف أحداث "منينه بلانشيه" توريطا موضوعيا وبنيويا للرواية؛ التي انفصمت ـ بصورة مطلقة ـ عن "الذاكرة" المحلية؛ التي يفترض أنها تحكي عنها، أو لها؛ أو هما معا.. فـ"بلجيكا" لا وجود لها في الذاكرة "الموريتانية" لكن الحرص على تتبع "ساق البامبو" وضرورة معرفة الكاتب لأي "أرضية" سيتخذها مسرحا لأحداث شخوصه؛ ومعرفته لروح ثقافة "المكان" فيها؛ دفعت "ولد امين" إلى الاختيار؛ وإلا لكان اكتفى بـ"موريتانيا" أو اختار "فرنسا" البلد الثاني لبطل روايته، والجزء المهم من ذاكرة وطنه الثاني.

إذا كانت الرواية "منينه بلانشيه" قد طرقت إشكالية "الهوية" من زاوية بكر؛ لم تطرق من قبل؛ فإنها ـ بالمقابل ـ طرحت إشكالية لم تطرح بعد؛ أو ليست مطروحة؛ فالعائلات الموريتانية من أصل "فرنسي" لا يعانون أي "قلق" في الهوية.. بل؛ لعل الأمر معكوس؛ فهم مُتقبَّلون جدا ـ على الأقل ـ من المجتمع الموريتاني؛ الذي يتربعون على هرمه الاقتصادي والسياسي؛ مما يعني أن النص لم يكن "ملتزما" بقدر ما كان "فانتازيا" ساذجة.!

ولم يكن تأثير الحقل اللغوي سلبا؛ بأقل من التأثير البنيوي؛ إذ اضطر الكاتب إلى النزول بلغته قليلا؛ معتمدا المباشرة والبساطة؛ بدل الإيحاء والغرابة؛ اللذين يتقن ـ في الأصل ـ مزاوجتهما، ومراقصتهما.. ليغيب الكثير من الجمال والإغراء اللذين ألفهما ودأب عليهما قراء ومدمنو "حسن مختار".
خ
لحسن الحظ؛ أو لسوئه؛ أو لهما معا؛ أن "مذكرات حسن مختار" صدرت قبل "منينه بلانشيه" من حسن الحظ؛ أن "منينه بلانشيه" استفادت من سمعتها؛ التي صنعت لها دعاية مبدئية وتلقائية؛ وغفرت لها "تلك المذكرات" أو غضت لها الطرف عن مثالبها.. ومن سوء الحظ؛ أنها أظهرتْ دالّة الكاتب متناقصة؛ مما يعني أنها لو سبقت المذكرات لكان الأمر مقبولا ومنطقيا.. غير أن الحقيقة أن "الجوائز" الأدبية العربية، وآليات الفوز بها، ومعاييرها النقدية (والتي يخيم عليها ضباب كثيف) أدّتْ إلى "تَسْلِيعِ" الأدب.. ولم يعد "الأديب" معها غير "مصنع" يبحث عن إرضاء الزبون؛ حتى وإن كلفه ذلك قناعته، أو بصمته، أو روحه؛ وحتى "ماركته" المهم؛ في النهاية؛ إرضاء الزبون.. أو المشتري..!!! من صفحة أحمد ولد الحافظ على فيس روك