العربية أم الفرنسة في موريتانيا؟! بقلم السعد عبدالله بيه

أربعاء, 02/05/2020 - 15:40

أعرف أن السؤال أعلاه يثير حنق أهل الفطر السليمة ، كون القضية بالنسبة لهم يمكن الإجابة عليها وحسمها وإسقاط مشروعية الاستفهام ؛ بقلب السؤال ليكون: الفرنسية أم التعريب في فرنسا؟
فإذا كان لعاقل أن يحاجج عن تسيد اللغة العربية لمجال التداول العام في بلد مثل فرنسا في مدارسه ومؤسساته السيادية والسياسية ( الرئاسة الحكومة البرلمان القضاء الأمن الصحافة الفرنسية...) فإن له أن يقترح الفرنسية لغة وطنية في دولة عربية أفريقية مسلمة كموريتانيا؛ الذكرى الوحيدة التي تربطها بفرنسا لا تشفع للغتها ، إنها ذكرى الاحتلال!
أما دعوى الانفتاح العلمي والاقتصادي والعالمي ، فصاحب الفطرة السليمة سيحتج علينا أيضا بالسؤال : وماذا عن الانجليزية والألمانية والصينية ...مثلا، ومع ذلك تجب إضافة الفرنسية ، ولكن ليس شيئا أكثر من إضافتها إلى القائمة الطويلة ، إذ الفرنسية ليست بمنزلة رحم منا دون اللغات الأخرى، هذا للذين يفكرون بعقولهم هم وبمصلحتهم هم وليسوا لمن يلقمون بأيادي أخرى - كما في المثل الشعبي عندنا-
ولكن لنحاول أن نكون منصفين أيضا، نحن نشعر بالضيق الذي يحيق بالأديولوجية الفرنكفونية ( المتفرنسين من أولاد فرنسا) -كما تسميهم الأدبيات المغاربية- ليس في موريتانيا فقط بل في إفريقيا وكثير من دول نفوذ التقليدي الفرنسي؛ لكن ما هو ردهم على تسيد الإنجليزية مثلا للمشهد الداخلي الفرنسي أيضا- هذه مجموعات المصالح القليلة التي تقدم نفسها كذراع يحاول الارتباط الدائم بفرنسا، عليها أن تدرك ضعف المناعة الثقافية الذي تصيب هذه اللغة الآن عالميا ، في ظل تسيد لغات أخرى لمجالات الصناعة والابتكار والتجارة والاقتصاد والسياحة ...وفشل تلك الدولة في التسييج على مصالحها اقتصاديا وتنمويا ، أمام عولمة جديدة ، تلحق فيها الشعوب هوياتها ومصالحها فقط .
إن محاولة ملء الرؤوس وترك البطون جوعى، استراتيجية ثقافية تفقيرية قديمة ومتقادمة، وعلى فرض صلوحها في بيئات ومناطق أخرى فإن الأمر تصعب المحافظة عليه في موريتانيا لأسباب متشعبة منها : أن رؤوس ساكنة هذا البلد كلهم، مملوءة بمعارف راسخة ومتنوعة سابقة على عصر فرنسا التنويري لفرنسا والاستعماري لغيرها، النفور التاريخي للموريتانيين في غالبيتهم من هذه اللغة - والذي قد لا يكون موضوعيا الآن- والذي ترجمته المقاومة الثقافية ؛ تخرج عشرات الآلاف من الطلبة من كل الاثنيات الموريتانية بأعلى الشهادات باللغة العربية( الطب الهندسة المعلوماتية القانون الاقتصاد الادارة الإعلام والآداب...الخ)؛ هجرة الشباب الموريتاني وعودته برأس المال - الأكثر اغراء-رمزيا وماديا إلى البلاد الأنجلوسكسونية، تزايد الشراكة التجارية والاقتصادية مع شركاء جدد الصين وابريطانيا وأمريكا وزيادة وتيرتها مع الوطن العربي، إكتساح اللغة العربية للمجال العمومي في التداول والنقاش والإعلام والإعلان ...فضلا عن أن الذين يفهمون الفرنسية في الأرياف والمدن لا يتعدون نسب ضئيلة يعجزون عن قراءة الفواتير بها فما بالك بقراءة شيء آخر.
هذا الانكماش والتراجع لمساحة اللغة الفرنسية من حيث الوجود والتأثير ، هو ما جعل البعض يثير من وقت وآخر ، حجج لا قيمة لها تاريخيا وواقعيا بأهمية بقاء الفرنسية في المشهد الموريتاني ولو كان ذلك على حساب العربية.
نحن هنا مضطرون للتذكير بالحقائق التاريخية والواقعية للمتباكين على اللغة الفرنسية!
اللغة العربية وهذا تشهد عليه المخطوطات والمرويات وحركة العلم؛ تعليما وإنتاجا ( التأليف) والقضاء ، هي لغة الشعب الموريتاني كله دون تمييز ودون فرض أيضا - كما تدعي القراءات الشعبوية ذات الأثر الرجعي للتاريخ- فهي لغة كل الاثنيات الموريتانية ( الزنجية والبربرية والعربية) لأنها ببساطة لغة العلم والدين والثقافة ...ولم تكن على حساب اللهجات المحلية التي دعمتها بالحرف وبالمضمون.
محاظر الضفة الموريتانية تشهد على هذا والوثائق لا زالت تدين المستعمر الفرنسي لحرقه مئات المكتبات العربية والإسلامية التي تحوى نفائس الكتب في اللغة والقرآن والتفسير والفقه والأصول والسير والتراجم والحساب والفلك... في محاظر المكون الزنجي الافريقي الموريتاني.
وهي سياسة فرنسية استعمارية -في حينه- تروم كأي مستعمر زرع بذور الشقاق والفتنة، ومحاولة سقيها إلى آخر نفس ممكن حتى بعد مغادرته، بين اثنيات ومكونات الشعب الموريتاني.
والخلاصة:
يجب إبعاد المسألة اللغوية عن التجاذب السياسي، فالحق أن اللغة العربية هي اللغة الرسمية دستوريا ، وأن اللهجات المحلية لها مكانتها الوطنية، وأن هناك حقائق أخرى وهي أهمية اللغات الأجنبية في التعليم والبحث والمعرفة والتكوين ، وليس شيئا آخر من قبيل منافسة العربية أو التميكن للغات الأجنبية على حساب اللغة العربية في الإدارة وفي المجال العمومي.والحقيقة الأخرى أن هناك مشكل نتج عن الخيارات والتوجهات الخاطئة في التعليم والإدارة وهو وجود من تكون بإحدى اللغتين على حساب معرفته للأخرى، وهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات ، ويجب حل هذه المعضلة بعقلية منفتحة ومصلحية واضحة.
أخيرا؛ ما ذهب إليه رئيس البرلمان سليم جدا دستوريا وسياديا فلغة التداول في المؤسسات سواء البرلمان أو مجلس الوزراء أو في أي مجال رسمي آخر، لا يمكن أن تكون بالفرنسية إلا إذا كان عاديا أن تكون اللغة العربية هي لغة المخاطبة في البرلمان الفرنسي مثلا.