كيف نفهم الأدب وكيف نفسره؟

خميس, 03/19/2020 - 15:29

يستدعي تفسير الشكل الذي يؤثر من خلاله الأدب في الوعي والمعرفة الإنسانيّة الكثير من البحث والتحليل، فقد يتخذ بحث هذا الموضوع منحى متعلّقا بالقيمة الجمالية أو الموضوعيّة أو كلتيهما.

وأودّ هنا مقاربة هذه الإشكاليّة في بعدين، الأول منهما ينطلق من المقولة الشهيرة في التراث العربيّ "الشعر ديوان العرب"، وهي من المقولات المهمّة للغاية، التي تحتاج تحليلا نظريّا وفلسفيّا للوقوف على خطورتها وأهميّتها، فهي في معناها الجوهريّ تعبير عن فكرة "روح العصر"، بما تشتمل عليه من تمثيل ضمنيّ للمظاهر الحضاريّة الماديّة والأخلاقيّة المجرّدة في المجتمعات العربيّة في مراحلها التاريخّة المختلفة، حيث يمكن للعمل أو الأعمال الأدبيّة الكبرى، سواء أكانت شعريّة أم نثريّة لأديب واحد أم لأدباء عدّة، أن تمثّل منظومة القيم والرؤى التي تسري بشكل ضمنيّ في أفعال الناس وقيمهم.

ويكون الأديب، بهذا الشكل، معبّرا عن دور المثقف والفيلسوف الذي يهضم مقولات عصره وما تَقَدّمه من أفكار في مجتمعه، ويعيد إنتاجها في أدبه مُبرزا خلجات النفس الإنسانيّة في الشعور الجمعي. من هنا، يمكن القول إنّ روح العصر تتمظهر جوهريّا في الأدب، فهو يتضمّن الأشواق والآمال والمخاوف والصراعات والتساؤلات الوجوديّة ذات الطابع الفلسفيّ والواقعيّ المعيش في عصر من العصور أو عند جماعة من الجماعات.

هذا يعني أنّ من طرق تفكيك الحضارة وتحليل مقولاتها الاعتمادَ على تلك الأعمال الكبرى، التي تغدو معرفتها مفتاحا هاديا للوقوف على منظومة القيم الكامنة في المجتمع، وتبرز من خلالها الظواهر الثقافيّة والحضاريّة.

بناء على هذا، سنجد في الأعمال الشعريّة العربيّة الكبرى وفي دواوين الشعراء العرب الكبار، باعتبار الشعر في العصور القديمة شكل الأدب المهيمن، ما يُمثّل روح العصر، فالشعر يتضمّن الرؤى والمخاوف وبنى التفكير وأشكاله السارية بين الناس، فما يظهر من مواقف وجوديّة في الشعر الجاهلي، نحو تلك التي تظهر في معلّقة طرفة أو امرئ القيس، تُبرز نوعا من القلق حول الوجود في الحياة التي تقترن بفناء حتميّ.

مع أنّ هذا القلق يبدو في القصائد ذاتيّا وجزئيّا (باعتبار الشاعر جزءا من المجتمع)، إلا أنّه يعبّر بصيغته الجزئيّة عن تصوّر كليّ ينتمي لفكر ذلك الزمان، فتلك المخاوف تكثيف للشعور الجمعيّ في مواجهة مسائل الوجود والفناء.

ومن نافلة القول أنّ هذا الشعور جوهريّ ولازم لمعرفة منظور ذلك العصر لمثل هذه القضايا وللوقوف على طبيعة الفكر السائد فيه، وهو ما يتجاوز الأفكار العامّة المبسّطة عن العصر الجاهليّ، فتتبُّع هذا النوع من القلق مدخل رئيسيّ لكشف جزء من منظومة أفكار ذلك العصر.

ومعروف ما في شعر الصعاليك وحكاياتهم التي تُبرز شكلا آخر من الأفكار تعاند نظام القيم السائدة والطموح إلى نظام مختلف، وهذا يتضمّن صورة لصراعات القوى الاجتماعيّة والسياسيّة في ذلك الوقت.

ويتعاضد مع الصعاليك شعر عنترة بن شدّاد الذي يُعلي من شأن الفروسيّة والبأس الشديد من أجل الوصول إلى الحريّة المتجسّدة فعليّا في حبيبته "عبلة"، فزواجه منها تغيير للنظام السائد وتحقيق لمبتغاه.

ولتقديم مثال آخر،  يمكن أن ننظر في تمثيل شعر أبي العلاء المعرّي للفكر الفلسفيّ العقلاني الآخذ بالانتشار في الثقافة الإسلاميّة في القرن الخامس الهجريّ، حيث يظهر في شعره ذلك النوع من القلق حول قضايا الوجود ومآلات الحياة التي كان للإسلام دور محوريّ في تقديم رؤى عظيمة عنها، فتفاعل الشعر بشكل واسع معها قبولا وعنادا قبل أبي العلاء كما يظهر في شعر أبي نواس وابن الحجاج وآخرين. ويمثّل شعر المعرّي ذروة النزوع العقلانيّ الذي يتمرّد على الرؤى اليقينيّة تجاه الوجود، فكان خوف المعرّي كما يتجلّى في شعره الخوف من عدم اليقين في المآل والشعور بلاجدوى الإنسان ووجوده، فيستهجن مثلا كيف يمكن لأيّ كائن، ويذكر الطير تمثيلا، أن يقف أمام هذا الكون ولا يأخذه الخوف العميق على المصير:

وكيف تنام الطيرُ في وُكناتها        وقد نُصِبتْ للفرقدين الحبائلُ

ويمكن مقارنة هذا القلق الوجودي عند المعري بالقلق على الذات ومجدها وبالقلق القوميّ عند المتنبي، فتبرز تصوّرات كبرى للوجود وللمجتمع والسلطة ومدى الخضوع لها أو التمرّد عليها.

ومن كتّاب النثر العربيّ في العصر العبّاسيّ، تُبْرِز، على سبيل المثال، أعمالُ الجاحظ تصوّرا عقلانيّا لمكوّنات الوجود كلّها، تنتظم في أبعاد محددة قائمة في الأساس على القدرة على البيان، الذي يصنّف كلّ الكائنات والموجودات باعتبار هذه القدرة دليلا على استخدام العقل، وهو ما يفصّله إدريس بلمليح في كتابه المتقن "الرؤية البيانيّة عند الجاحظ"، ويعبّر هذا عن سياق واسع من التصوّرات العقلانيّة سادت عند المعتزلة التي كان الجاحظ يؤمن بها.

وفي عصرنا الحديث، إحدى الوسائل المهمّة في التعرّف على المجتمعات المختلفة وثقافاتها قراءة أدبها، فهو تمثيل لقِيَمِها وتفكيرها وتجسيد لتجربة حيّة لها، تتضمن ما يعبّر عن كينونتها وهويّتها. ففي روايات نجيب محفوظ، مثلا، نجد ما يجسّد الروح المصريّة ومخاوف المصريين وآمالهم وتناقضاتهم وأحلامهم.

ويمكن لرواية واحدة من راوياته المهمّة أن تظهر فيها ضمنيّا قضيّة وجوديّة عصيبة تواجه الناس بشكل حثيث، مع أنّ الرواية لا تقول كلمة واحدة عنها، على نحو ما يتجلّى في رواية "حضرة المحترم" التي يخضع فيها عثمان البيومي لنظام العمل المؤسسي الحديث إلى حدّ نفي تفاصيل حياته كلّها، فيصل في نهاية المطاف إلى موته وهو فاقد لمعنى الحياة وهويّة الذات. وغير خفيّ أنّ هذه المعاناة أصيلة في بنية الحياة الحديثة التي يخضع فيها الناس مضّطرّين، وإن بدا أنّهم يريدون ذلك ويسعون إليه بإرادتهم، لأنظمة المؤسسات القاسية التي لا تتخذ في الاعتبار أهميّة كبيرة للذات الفرديّة.

تتجلّى هذه الإشكاليّة في رواية "حضرة المحترم" باعتبارها، من ناحية، قضيةً تؤثّر في المجتمع المصري من خلال السياق الداخليّ له وضمن مشاكله العميقة سيّما الفساد الإداريّ والسياسيّ والفقر وخضوع تصوّرات المجتمع وأفكاره لهذه المشاكل، ومن ناحية أخرى، باعتبارها تمثيلا للسياق الإنسانيّ العام، الذي يعتمد في سيرورته في العصر الحديث على النظام المؤسسي الطاحن للفرد، الذي يقوم تصوّره عن نجاحه على دخوله في النظام المؤسسي الحديث، وبعد ذلك يتورّط في مراحل النظام ودورته المربكة، فيجد الإنسان نفسه فاقدا لجوهره الإنسانيّ، ولا يختلف بالتالي عن الآلات والأدوات.

والبعد الثاني يعتمد على وصف حازم القرطاجني للشعر بأنهّ "تذعن" له النفوس وتصدّق أو تكذّب دون رويّة وتفكّر، فيقول في كتابه منهاج البلغاء: "والمخيّل هو الكلام الذي تذعن له النفوس فتنبسط لأمور أو تنقبض عن أمور من غير رويّة وفكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانيّا غير فكريّ، سواء كان القول مصدّقا به أو غير مصدّق به" (ص 85). في هذا الوصف "تذعن له النفس" إشارة لإحدى أهم ميزات التخييل شعرا ونثرا وهي قدرة على التجاوز عما أدوات الوعيّ في القبول والرفض، ليصل إلى التأثير مباشرة؛ فالفنّ ليس بحاجة إلى التصديق وعدم التصديق، لأنّ ذلك من خصائص المفاهيم والحقائق الواقعيّة.

وفي هذا المعنى يقول "بيرجسون" وهو أحد منظري علم الجمال في كتابه "بحث في علم الجمال": "موضوع الفن بعث النوم في القوى الفعالة، أو بالأصح، في القوى التي تمارس المقاومة في شخصيتنا، بحيث يؤدي بنا إلى حالة من الإذعان التام والوداعة المطلقة حيث نحقق الفكرة الموحى بها لنا، وحيث تتفق مشاعرنا مع الشعور المعبّر عنه." ومن هذا الوجه، يتأثّر القارئ بالمتقن من الشعر أو القصّة أوالرواية، لكون الإتقان شرط تحقيق التأثير، بشكل ضمنيّ تماما، ولا تُستفزّ فيه قدرات الغربلة والتمييز بين الصدق والكذب أو المقبول والمرفوض.

فعلى سبيل المثال، نحن نحبّ ونستجيب لوصف المتنبي لكافور بأنّه أسود ولصفات خَلْقِيّة أخرى، مع أننا على المستوى الأخلاقيّ الواعي نرفض مثل هذا الوصف، ولا نقبل أن تُربط الأفعال والمواقف السيئة باللون وصفات الجسد! بالمقابل، نتأثر إلى حدّ كبير بشعر عنترة، ونستجيب لبطولته ونتعاطف مع محاولاته نيلَ حبيبته عبلة، التي يحول لونُه بينه وبين الفوز بها بالدرجة الأولى. وعلى هذا الأساس، يستطيع المرء أن يفسّر الاستجابات الإيجابيّة  للهجاء في الشعر العربيّ، بالإضافة إلى حركات ثوريّة على المستوى الاجتماعيّ أو التراثيّ أو الأخلاقيّ، نحو شعر بشار وأبي نواس وابن الحجّاج وسواهم. 

وهذا المنطلق خصبٌ لمناقشة الرواية الحديثة، التي يستجيب لها القارئ بناء على توجيه وجهة النظر أو ما يُعرف في السرديّات الديثة بـ "التبئير". فحين توجّه الأحداث في الرواية من منظور شخصيّة تحاول النجاة بنفسها والهرب من مواجهة العدالة، فإننا نتعاطف معها ونأمل لها النجاة. وحين تُقدّم الأحداث من وجهة نظر المحقق، فإنّ مشاعرنا تكون لصالحه وضدّ من يحاول الهرب من العدالة.

وقد تصل وجهة نظر سلبيّة عن موضوع أو جماعة معيّنة بسبب تكريس صور نمطيّة عنها في الرواية، أو قد يحدث العكس تماما، فتصل القارئَ وجهةُ نظر إيجابيّة عن موضوع أو جماعة ما بسبب إظهارها بفاعليّة  وإيجابيّة. ونجد مثل هذه الحالات مركّزة بشكل بارز في الأدب الذي يتبنّى منظورا أيديولوجيا محددا؛ فالإسلاميّ عند الكتّاب اليساريين شخص جامد وغير فاعل، بحيث يبدو كلّ الإسلاميين كذلك. والعكس صحيح، فاليساري عند الكتّاب الإسلاميين يتّصف بالسلبية ويتخذ بعض المقولات الأيديولوجيّة الجاهزة ويكررها باعتبارها التفسير المركزيّ للأفعال والأحداث.

وهنا، نحن أمام صور نمطيّة، تكريسها في الأعمال الأدبيّة يؤدي إلى اعتبارها جزءا من الحقيقة، وقد يصل الأمر إلى تصديق وجهة نظر لا يمكن قبولها على المستوى المباشر من الوعي، مثل ظهور آراء استشراقيّة عن الشرق وإعادة إنتاج تلك الآراء على يد كتّاب شرقيين، كأن نجد تصويرا للعربيّ بأنّه يميل إلى الوجدان واللاعقلانيّة بشكل طبيعيّ، دون تقديم ذلك في سياق ضعف مؤسسات التعليم العام والفساد والفشل في إدارة المجتمع.

ظهور مثل هذه الآراء في سياق حكائيّ فيه تشويق عال يؤدي إلى القبول ولو جزئيّا بها. وهذا أحد ملامح خطورة الأدب في تمثيل الروح العامة والوعي، وبالضرورة، تشير هذه الإشكاليّات إلى أهميّة النقد الذي يقوم عمله في الأساس على تعليم الناس كيفيّة قراءة الأدب وتفسيره.