مالك بن أنس: إمام دار الهجرة وعالم الحجاز

اثنين, 05/04/2020 - 10:13

هو أبو عبدالله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر أنس بن الحارث بن غيمان الأصبحي المدني، وينتهي نسبه إلى يعرب بن يشجب بن قحطان.

جده مالك بن أنس من كبار التابعين، وأحد الذين حملوا الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه ليلاً إلى قبره.

الإمام مالك بن أنس 117- 597م، هو ثاني أئمة المسلمين السنة الأربعة المتفقون على كل الأصول الفقهية، والمختلفون في المسائل الفرعية التي كونت نشأة المذاهب الفقهية الأربعة (الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنبلية).

تلقى الإمام مالك العلم على أيدي عدد من العلماء: إبراهيم بن أبي عبلة، إبراهيم بن عقبة، أبو بكر بن نافع، أبو عبيد الله مولى ابن أزهر، أبو عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، أبو بكر بن عمر العمري، إسماعيل بن أبي حكيم، إسماعيل بن محمد بن ثابت، إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص، ربيعة بن أبي عبد الرحمن الرأي، زياد بن أبي زياد، زياد بن سعد ، زيد بن أبي أنيسة، زيد بن أسلم، أبو ليلى الأنصاري، زيد بن رباح، السائب بن يزيد.

ومن تلاميذه: الشافعي، السفيانان، شعبة، ابن مهدي، ابن جريج، الليث، ابن المبارك، الزهري شيخه، يحيى بن سعيد الأنصاري، يحيى بن سعيد القطان، يحيى بن يحيى الأندلسي، يحيى بن يحيى النيسابوري.

أهم كتبه التي أخذت شهرة كبيرة هو كتاب الموطأ، لكنه ألف كثير من الكتب، ذكر منها ابن فرحون في كتابه الديباج المذهب: رسالة في القدر، والرد على القدرية، في النجوم، وحساب مدار الزمان ومنازل القمر، رسالة في الأقضية، رسالة في الفتوى، في تفسير غريب القرآن.

ظهر مذهبه الفقهي في كتابين أساسين، هما الموطأ والمدونة الكبرى، التي ذكر فيها كل الأحكام والقضايا الفقهية التي عرضت له.

أخذ كتاب الموطأ ينتشر بروايات مختلفة، وبدأت صورة مالك تتعاظم في الكتابات التاريخية اللاحقة.

يقول أحمد صبحي منصور إنه حصلت إضافات على الكتاب، وكانت أكاذيب من بنات أفكار المؤرخين الذين جاءوا فيما بعد في عصر المذاهب الفقهية والتعصب المذهبي.

ويتابع فيقول، لدينا نوعان من التأريخ لمالك بن أنس، أحدهما كان الأقرب الي الاعتدال والتعقل، ويتمثل هذا في ترجمة مالك التى ذكرها ابن الجوزى في كتابه المنتظم، وقد جمع فيه ما قيل عن مالك مما كتبه ابن سعد والواقدي والطبري، ومثله المؤرخ ابن كثير.

والنوع الآخر، يغلب عليه طابع المدح والتمجيد وربما التقديس، وبصور متفاوتة مختلفة كما يلاحظ في تهذيب التهذيب وصفوة الصفوة وحلية الأولياء ووفيات الأعيان.

كان للإمام مالك منهج في الاستنباط الفقهي لم يدونه كما دون بعض مناهجه في الرواية، ولكن مع ذلك صرح بكلام قد يستفاد منه بعض منهاجه، فقد ألمح إلى ذلك وهو يتحدث عن كتابه الموطأ:

فيه حــديث رسـول الله وقــول الصحابة والتـابعين ورأيــي، وقــد تكلمت برأيـي، وعلـى الاجتهـاد، وعلـى مـا أدركت عليه أهل العلم ببلدنا، ولم أخرج من جملتهم إلى غيره.

تشير هذه العبارة من الإمام إلى بعض الأصول التي استند إليها في اجتهاداته واستنباطاته الفقهية، وهي: السنة، وقول الصحابة، وقول التابعين، والرأي، والاجتهاد، ثم عمل أهل المدينة.

وعلى الرغم من أن الأمام مالك يمثل مدرسة الحديث في المدينة، إلا أنه كان يعتمد الرأي كما كان أبو حنيفة، فهو يأخذ بما جاء في الكتاب، فإن لم يجد فبسنة الرسول، فإن لم يجد أخذ بفتوى الصحابة لأنهم عايشوا الرسول، فإن لم يجد نظر إلى إجماع علماء الأمة في المسألة، فإن لم يجد أخذ بالقياس والاستحسان والعرف وسد الذرائع والمصالح المرسلة ضمن شروط.

الأصول النقلية: القرآن الكريم، ثم السنة النبوية، ثم الإجماع، والإجماع عنده هو ما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه.

الأصول العقلية

1ـ القياس: يعتبر القياس على الأحكام الواردة في الكتاب والسنة المعمول بها، طبقا للمنهج الذي قاس عليه علماء التابعين من قبله.

2ـ الاستحسان: الأخذ بما هو أرفق بالناس، لأن الإستحسان في المذهب المالكي كان لدفع الحرج الناشئ من اطراد القياس، أي أن معنى الاستحسان طلب الأحسن للاتباع.

3ـ المصالح المرسلة: من شرطها ألا تعارض نصا، فالمصالح المرسلة التي لا تشهد لها أصول عامة وقواعد كلية منثورة ضمن الشريعة، بحيث تمثل هذه المصلحة الخاصة واحدة من جزئيات هذه الأصول والقواعد العامة.

4ـ سد الذرائع: معناه المنع من الذرائع أي المسألة التي ظاهرها الإباحة ويتوصل بها إلى فعل ممنوع، أي أن حقيقة سد الذرائع التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة.

5ـ العرف والعادة: إن العرف أصل من أصول الإستنباط عند مالك، وقد انبنت عليه أحكام كثيرة، لأنه في كثير من الأحيان يتفق مع المصلحة، والمصلحة أصل بلا نزاع في المذهب المالكي.

6ـ الاستصحاب: هو بقاء الحال على ما كان حتى يقوم دليل يغيره.

7ـ مراعاة الخلاف: إعمال دليل في لازم مدلول الذي أعمل في نقيضه دليل آخر.

يتميز المذهب المالكي بأنه أكثر المذاهب أصولا وأوفرها أدلة، سواء في ذلك الأدلة النقلية، أو الاجتهادية العقلية، فقد تمسك المالكية بأصول لم يقل بها غيرهم، وقرروا أصولا نفاها آخرون تأصيلا، وعملوا بها تفريعا.

وفي هذا السياق يقول أبو زهرة في كتابه مالك حياته وعصره آراؤه وفقهه:

فـإنه أكثر المــذاهب أصـولا، حتـى إن علمــاء من المذهب المالكي يحاولون الدفــاع عـن هـــذه الكثرة، ويدعــــون علـــى المـذاهب الأخـرى أنهــا تــأخذ بمثل مـا يأخـــذ به من أصــول عــددا، لكـن لا تسميها بأسمائها، ولا يخفــى مـا للكثرة من الفـوائد الكبيرة، فكثـرة الأصــول كفيلة بـاستيعـاب قضــــــايا الإنسان على اختلاف الزمان والمكان والموضوع، وهي الكفيلة بضبط مجال الخــلاف داخـل المـذهب، بما ينسجم والتيسير علــى الأمة، فالكثرة حسنة من حسنات المذهب المالكي.

ويروي أبو مصعب: سمعت مالكا يقول دخلت على أبي جعفر أمير المؤمنين وقد نزل على فرش له وإذا على بساطه دابتان ما تروثان ولا تبولان وجاء صبي يخرج ثم يرجع فقال: هل أتدري من هذا، قلت: لا، قال هذا ابني وإنما يفزع من هيبتك، ثم ساءلني عن أشياء منها حلال ومنها حرام، ثم قال لي: أنت والله أعقل الناس وأعلم الناس، قلت: لا والله يا أمير المؤمنين، قال: بلى، ولكنك تكتم، ثم قال: والله لئن بقيت لأكتبن قولك كما تكتب المصاحف ولأبعثن به إلى الآفاق فلأحملهنم عليه، فقال مالك: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول تفرقوا في الأمصار وإن تفعل تكن فتنة!

محنته

تعرض الإمام مالك لمحنة وبلاء بسبب حسد ووشاية بينه وبين والي المدينة جعفر بن سليمان، ويروى أنه ضرب بالسياط حتى أثر ذلك على يده، فيقول إبراهيم بن حماد، إنه كان ينظر إلى مالك إذا أقيم من مجلسه حمل يده بالأخرى.

ويقول الواقدي: لما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا بمالك إليه وكثروا عليه عنده، وقالوا لا يرى أيمان بيعتكم هذه بشيء وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت بن الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز عنده، قال فغضب جعفر فدعا بمالك فاحتج عليه بما رفع إليه عنه فأمر بتجريده وضربه بالسياط وجبذت يده حتى انخلعت من كتفه وارتكب منه أمر عظيم فواالله ما زال مالك بعد في رفعة وعلو.

وعندما علم أهل المدينة بما جرى للإمام مالك اشتد سخطهم على الوالي، وتطاولوا عليه، بل وعلى الخليفة نفسه، وشعر الخليفة أبو جعفر المنصور بمرارة ما فعل، فأرسل إلى الإمام مالك يعتذر إليه، ويتنصل مما فعله واليه. ولما جاء أبو جعفر إلى الحجاز حاجا أرسل إلى مالك، واجتمع معه، وبالغ له في الاعتذار، وذلك كله لتطييب خاطر العامة أولا، ثم الإمام ثانيا.

روى الواقدي: كان مالك يأتي المسجد، ويشهد الصلوات والجمعة والجنائز، ويعود المرضى ويقضي الحقوق ويجلس في المسجد، ويجتمع إليه أصحابه، ثم ترك الجلوس في المسجد فكان يصلي وينصرف إلى مجلسه، وترك حضور الجنائز، فكان يأتي أصحابها فيعزيهم، ثم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلوات في المسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحدًا يعزيه ولا يقضي له حقا، واحتمل الناس له ذلك حتى مات عليه.

وتوفي الإمام مالك في المدينة، ودفن بالبقيع، بجوار إبراهيم ولد النبي صلى الله عليه وسلم.