منذ فترة من الزمن ليست بالقصيرة وسلوك الموريتاني _ولا أقول الشنقيطي _ موجه بدافعين رئيسيتين :
_ الأول هو رغبته الجامحة في الحصول على الثراء السريع ، دون وجه حق كأنه في سباق مع الزمن .
_ الثاني هو شعوره بل واقتناعه الذي لا يتطرق إليه الشك بأنه لن يتعرض لأي نوع من أنواع العقاب ، سواء كان قانونيا اومعنويا.
وما حدث في البنك المركزي من اختلاس وتزوير ، يشير إلى ضرورة أخذ هذين العاملين في الإعتبار ، أثناء محاولة تفسير هذه الواقعة وتفسير غيرها من الوقائع المشابهة أو المجاورة .
لقد وصلنا منذ فترة من الزمن إلى مرحلة غير مسبوقة من انهيار منظومتنا القيمية عموما ، والأخلاقية خصوصا .
والمنظومات القيمية تمثل نوعا من الكوابح والموانع الذاتية التي تقف في وجه هذا النوع من المسلكيات .
فإذا انهارت أو تراجع دورها ، لم يعد للضمير الأخلاقي الجمعي من تأثير على الفاعلين .
لقد كان لمؤسسة القبيلة منظومتها القيمية ، ومع أن تلك المنظومة لم تكن عادلة ولا منصفة بالنسبة لبعض مكونات القبيلة ، إلا أنها رغم ذلك كانت توجه وتؤطر سلوك الأفراد وتنير لهم الدروب والسبل .
وكان لمقولات " العار والفضيحة " دور محوري في كبح السلوك الخارج عن مألوف الجماعة ، و لمقولات " المروءة والشهامة " دور محوري في الدفع نحو ما ترى الجماعة أنه فضائل .
وكان الفرد ممثلا للجماعة متماهيا معها ، مما جعل سلوكه خاضعا لرقابة خارجية ورقابة ذاتية صارمتين .
ثم تأتي الدولة محمولة على "أكتاف المستعمر" ، مما افقدها شرعيتها أو على الأقل جزء من تلك الشرعية في نظر أفراد المجتمع الأهلي .
وتبدأ علاقة متوترة بين المجتمع والدولة : مقاطعة من طرف البعض ، ومشاركة من طرف البعض الآخر .
وتسود "التقية" السياسية و"الميكيافلية" المطبقة ، ويتم الفصل على مستوى السلوك بين السياسة والدين ، وبينها وبين الأخلاق .
ويسود تصور لدى الكثيرين وهو أنه : ينبغي الفصل بين الحياة الخاصة للفرد وحياته العامة .
ومع أن هذا التصور صحيح في خطوطه العامة ، إلا أنه تم توظيفه توظيفا خاطئا .
حيث فهم البعض منه أن التدين لا يتجاوز الدائرة الفردية ، مما يؤدي إلى ازدواجية في الشخصية : تدين على المستوى الفردي وانحراف في السلوك السياسي .
وهنالك تطبيق للمقولة السابقة ولكن في اتجاه مغاير : انحراف على مستوى السلوك الفردي ، والتزام على مستوى السلوك السياسي .
ولكن النتيجة في الحالتين واحدة : تخارج وتعارض بين الدائرتين : الفردية والجماعية .
وعندما نعود إلى منظومة القيم الإسلامية ، نجد أن ورع الفرد وتقواه وخشيته من الله أي ما يسميه ابن خلدون بالوازع الديني ، يقوم بدور محوري في توجيه السلوك بالنسبة للدائرتين : الفردية والجماعية .
وعندما ننظر إلى الممارسة السياسية الغربية ، نجد أن أي انحراف في السلوك الفردي ( تحرش ، اختلاس ، تزوير ... إلخ ) حتى ولو كان سابقا على تولي المنصب ، قد يؤدي إلى انهيار حكومة أو تقاعد مبكر بالنسبة للسياسيين .
أما نحن _ ومنذ فترة غير قصيرة من الزمن _ فلا نكاد نحسن نهجا ولا نسلك طريقا .
فلا نحن بقينا متمسكين بقيم القبيلة رغم علاتها ، ولا نحن تمسكنا بقيم الإسلام بشكل لا لبس فيه ولا غبش ، ولا نحن أخذنا بالجانب الإيجابي من قيم الحداثة .
وتلك هي مأساتنا الحقيقية
وقد أصبح مجال السياسة هو مجال الأزمة ، حيث يتسابق الجميع رجالا ونساء إلى التعيينات ، من أجل الإقتراب من مجال النفوذ ، وبالتالي من مصادر الثروة من أجل أن تزداد قيمة الفرد المعين ومكانته داخل المجتمع .
وفي حالة استحواذه على ممتلكات عامة ، يتم توقيفه في احسن الأحوال وسجنه بشكل مؤقت دون إرجاع للممتلكات ، أو إرجاع جزئي لها ، وبعد ذلك يتم تعيينه باسم القبيلة التي وقفت مدافعة عنه ، وهو نهج مخالف لقيم القبيلة التي كانت تتبرأ في السابق من انحرافات أفرادها .
ولم يعد يخضع مختلس المال العام منذ فترة ليست بالقصيرة ، لأي عقاب سواء كان معنويا حيث أن اختلاس المال العام لم يعد عارا ولا فضيحة ، ولا قانونيا .
بل كل مختلس يجد في الغالب من يدافعون عنه : القبيلة ، الشريحة ، القرابة من المدونين ، بعض النساء إن كانت المختلسة امراة .
وكل ما تقدم يؤكد أننا بحاجة إلى إعادة ترميم منظومة القيم الناظمة والجامعة بالنسبة لهذا المجتمع
وان من سيتولون إنجاز تلك المهمة ينبغي أن يمتازوا بنظافة الأيدي ونظافة التاريخ .