أكّدت وكالة “بلومبيرغ” الأمريكيّة المُتخصّصة في الشؤون الاقتصاديّة في تقريرٍ لها بثّته أمس، أن مكتب استِرداد أموال الدولة الليبيّة وإدارة الأُصول المُستردّة، قالت في طلبِ استدعاء تقدّمت به إلى محكمة منهاتن الفيدراليّة “أن الأموال التي “سرقها” معمر القذافي وعائلته وشركاؤه التي تُقدّر بمئة مليار دولار قد تم تحويلها من خلال 6 بنوك أمريكيّة وأوروبيّة كُبرى، وما زالت مفقودة حتى الآن”، وأضافت “أن تحقيق فرنسي يتحدّث عن شخصيّة تونسيّة “غامضة” تتحرّى عن ثروة القذافي الضّخمة المزعومة المُقدّرة بنحو 400 مليار دولار.
بداية لا نعرف ما مدى “شرعيّة” هذا المكتب، والحُكومة الليبيّة التي يتبع لها، وما هي الإنجازات التي حقّقها في استعادة الأرصدة والأموال الليبيّة المسروقة، على مدى السنوات العشر الماضية مُنذ إسقاط حُكم العقيد القذافي بتدخّل عسكريّ من طائرات حلف “الناتو”، ونحن نتحدّث هُنا تحديدًا عن أموال وعوائد النفط الليبي المنهوبة، وعن بعض الأرصدة التي اعترف أكثر من مسؤول ليبي بأنّه جرى فك عمليّة التجميد عنها، وعادت إلى ليبيا، ليتم تحويلها على أيدي بعض “الثوّار” إلى حسابات شخصيّة في مصارف أوروبيّة وأمريكيّة.
***
لا نُجادل مُطلقًا بأن حُكم العقيد معمر القذافي كان ديكتاتوريًّا، ولكن أن يُقال إن الأموال التي “سرقها” وعائلته وشركاؤها تقدر بحوالي مئة مليار دولار وجرى تحويلها إلى حسابات خارجيّة في ستة بنوك أمريكيّة وأوروبيّة، فهذا كذب وافتراء صريح، لأن أكثر من 200 مليار دولار تركها القذافي وحكومته كانت مدرجة باسم الشعب الليبي، وليس باسمه شخصيًّا، أو بأسماء أفراد من عائلته.
ثلاثة من أبناء العقيد القذافي استشهدوا وهُم يُدافعون عن بلدهم، وفي ميدان المعارك في وجه غزو حلف “الناتو”، كما ان العقيد القذافي نفسه لم يهرب، ورفض العروض المغرية التي جرى تقديمها له للجوء الى أمريكا أو عواصم أوروبية، وفضل أن يستشهد ويُدفن في تراب بلاده، أما ما بقي حيًّا من أبنائه فجرى اعتقالهم جميعًا، باستثناء زوجته وابنته غادرتا إلى الجزائر حفاظًا على أعراضهن، وهذا تصرّف سليم يتماشى مع التقاليد العربيّة والإسلاميّة، وبقي الرجال في ساحة المعركة يُقاتلون حتى نُقطة الدّم الأخيرة.
من المُعيب أن يقول هؤلاء الذين تواطأوا مع حلف “الناتو”، وقدموا الغطاء لغزو بلدهم وتدميرها، وايصالها إلى ما وصلت إليه الآن من فوضى واعمال القتل والنهب والتفتيت، من المعيب ان يقولوا ان الرجل سرق المليارات وهو الذي لم يترك قصرا، ولا يختا، ولا حتى بيتا، او حسابا شخصيا بإسمه، وقضى كل حياته واسرته في شقة متواضعة جدا في ثكنة باب العزيزية في اطراف العاصمة طرابلس، قصفتها طائرات “الناتو”، او في خيمة في الصحراء، حتى انه كان ينقل خيمته الى أي عاصمة يزورها، ولم ينزل مطلقا في قصور الضيافة الفخمة، او فنادق الخمسة نجوم.
أكتب هذا الكلام دفاعًا عن الحقيقة، وتفنيدا لهذه الافتراءات التي تطال الرجل وعائلته، واحيانا عرضه، وقد اختلفت معه في الكثير من جوانب ادارته للبلاد، وهدد بإغتيالي بسبب هذا النقد الذي وجهته له على شاشات قنوات تلفزيونية بريطانية (سكاي نيوز)، او في مقالات في صحف عالمية كبرى، خاصة اثناء ترحيله او طرده لعائلات فلسطينية من ليبيا، وادين بالشكر الى الأستاذ عبد الرحمن شلقم وزير الخارجية الليبي الأسبق واحد اكثر المقربين من حكم العقيد القذافي، الذي نشرت له مقالا في صحيفة “القدس العربي” في شهر آذار (مارس) عام 2011 من منطلق حقه في الرد، يؤكد فيه ان الصحيفة ورئيس تحريرها في حينها لم تستفد مطلقا من حكم العقيد القذافي، والمقال موثق، عندما انتقد بشدة معارضتي لتدخل حلف “الناتو” في الازمة الليبية، انتصارا للثورة الليبية في حينها ودفاعا عن شرعيتها.
حلف “الناتو” أطاح بالعقيد القذافي وحكمه لأنه كان يشتري الذهب، ويبني قاعدة ارصدة استثمارية قوية بالعملات الأجنبية الصعبة، تمهيدا لإصدار الدينار الافريقي، لإنهاء هيمنة الدولار واليورو على اقتصاد القارة السوداء، والعالمين العربي والإسلامي، وليس لان حكمه كان ديكتاتوريا، او لانتهاكاته لحقوق الانسان، ولعل ندم الرئيس الأمريكي باراك أوباما في آخر أيامه في الحكم على قيادة بلاده لتدخل حلف “الناتو” في ليبيا، واعترافه بأنها كانت مؤامرة للإطاحة بنظام القذافي للأسباب المذكورة آنفا، وليس انتصارا للشعب الليبي وحرصا على حقوقه المشروعة في الديمقراطية والحياة الكريمة.
نتمنى ان يتم استرداد جميع الأرصدة الليبية الموجودة في البنوك الأجنبية، شريطة ان توضع في صندوق استثماري سيادي باسم الشعب الليبي، تديره مؤسسة محترفة من شخصيات ليبية ذات سمعة وطنية جيدة، واياد نظيفة بيضاء، وتحتكم الى متابعة قانونية شفافة، مثلما نتمنى أيضا ان يجري تشكيل لجنة ليبية حقوقية وطنية للتحقيق في السرقات التي اقدم عليها قادة الميليشيات ومدّعو الوطنية وحقوق الانسان والديمقراطية وكشف حساباتهم في أوروبا، واستعادة جميع الأموال التي سرقوها، وتوظيفها في تخفيف معاناة الشعب الليبي على الصعد كافة.
***
عائلة العقيد الليبي معمر القذافي الذي جرى تبرئتها، او اسقاط كل التهم الموجهة اليها، ورفع كل القيود عنها، والسماح لعميدها سيف الإسلام القذافي بالترشح لخوض الانتخابات الرئاسية (اذا قدر لها ان تعقد)، واسقاط كل التهم عنه، تستحق هذه العائلة الاعتذار عما لحق بها من مظالم واهانات، والسماح لها بالذهاب الى القضاء للقصاص من كل الذين تطاولوا عليها، ووجهوا اتهامات باطلة في حقها، وعلى رأس هؤلاء السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية في حينها، وكل من نيكولاي ساركوزي رئيس فرنسا المجرم الفاسد، وديفيد كاميرون رئيس وزراء بريطانيا الأسبق، والسيد عمرو موسى امين عام الجامعة العربية، وكل الزعماء العرب الذين قدموا الغطاء العربي لغزو حلف “الناتو” لليبيا، ولا ننسى في هذه العجالة كل رجال الدين الذين افتوا بقتل القذافي، والتمثيل بجثته، وهذا موضوع آخر قد نعود اليه في المستقبل.. والأيام بيننا.
بقلم عبد الباري عطوان