توفى أبي؛ ورحل عن الحياة وتركني؛ هي إرادة الله وسنة الحياة؛ ولكن الفراق صعب؛ والموقف جلل؛ ففي لحظة فارقة؛ تكتشف أنك أمسيت وحيدًا بلا سند ولا عزوة؛ مكسورًا؛ فقد رحل الداعم والوتد الذي ترتكز عليه.
نعم ذهب إلى جوار ربه؛ إلى حوله وقوته؛ لتبدأ الذكريات في سرد شريطها؛ بأيامها وسنواتها الطويلة؛ منذ أن وعيت وأدركت أنه قوتي التي تجبرني وتحميني؛ سندي الذي يؤويني؛ الدرع التي تسترني؛ الخِل الوفي الذي يلبي حاجتي قبل طلبها.
إنه الحبيب الغالي؛ الذي أحبني وأفنى عمره في حبي؛ دون انتظار المقابل؛ حملته بيدي إلى قبره؛ مودعًا جثمانه الطاهر قبل أن يواريه الثري؛ وأنا لا أتخيل أني لن أراه مرة أخرى؛ وبات في معية خالقه؛ الذي ستره فوق الأرض؛ هو في رحابه تحت الأرض.
توفى أبي؛ وترك تاريخًا ناصع البياض؛ واسمًا أتشرف بأني أحمله؛ وسيرة طيبة؛ هي تاج تتزين بها رأسي؛ فقد علمني أن الطريق المستقيم غاية لا يجب الحياد عنها مهما قابلت من تحديات، وأن الرجولة والشهامة أداء تلتزم به كل يوم؛ مضن ومُجهد؛ ولكن لا مناص من أدائه.
توفى أبي؛ ونصائحه وتوجيهاته؛ يتردد صداها في أذنيَّ لا تنقطع؛ فقد تشكلت شخصيتي بشخصيته؛ وشُد عضُدي بفضله؛ فالمواقف الذي مررنا بها معًا؛ معين لا ينضب؛ استنير به في حياتي.
توفى أبي؛ وما زال هناك بعض من أصدقائه؛ ومعارفه يتصلون بي؛ يسألون عنه؛ متى سيخرج من المستشفى.
رحل أبي؛ وهو لن يقرأ تلك الكلمات؛ وهي وبأضعاف لا حدود لها لن تكفي رثاءه؛ ولكنها شهادة لله؛ كنت نعم الأب الرائع الكريم العظيم الشهم الوفي المخلص المتفاني.
رحل أبي؛ وأقول لكل من كان أباه على قيد الحياة؛ اذهب إليه وقبل قدميه؛ واسع بكل قوتك لتنال رضاه؛ فهو سترك وعضُدك وقامتك؛ هو تاريخك واسمك؛ فقد رعاك صغيرًا؛ وهو الآن في حاجتك وأنت كبيرًا.
انهل من معينه؛ فهو كنز غير محدود؛ فقد أمرنا الرحمن عز وجل بتوقير الآباء؛ حينما قال:"وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)؛ سورة الإسراء.
عندما كنا صغارًا؛ كان الأب هو الحول والقوة؛ وعندما تداهمه الشيخوخة؛ يصبح الأبناء؛ هم الحول والقوة؛ وإن لم تستفد من وجوده بتوقيره وتقديره ورعايته؛ لن تكفيك أموال الدنيا كلها إذا بذلتها؛ بعد رحيله.
واعلم أن دعاءه لك؛ بمثابة غطاء تتدثر به؛ وبه يعزك الله؛ ويُعلٌى من قدرك؛ وبه تُسهل لك أمور حياتك؛ وتنفك به كُربك؛ وأزماتك فاحرص على الاستزادة به؛ قبل فوات الأوان.
د.محمدعالي الهاشمي