محاولة للكشف عن أسرار وفاة غامضة من قتل الأستاذ الشيخ ولد حرمة الله؟

جمعة, 05/04/2018 - 00:28

تحرص الأسرة، بادئ ذي بدء، على أن تعبّر عن أخلص شكرها وامتنانها لفخامة الرئيس محمد ولد عبد العزيز على مواساته ودعمه لها في المحنة العصيبة التي مرت بها. فعندما كان من المؤمّل إنقاذ حياة الفقيد، اتصل وزير العدل بسفير فرنسا بنواكشوط للحصول على التأشرة بسرعة.

وبموازاة ذلك، أصدر الرئيس أوامره بتجهيز طائرة مزوّدة بوسائل العناية الطبية لنقل المصاب إلى الخارج مع التكفّل التام بجميع تكاليف الاستشفاء. غير أن الأطباء صرحوا في آخر المطاف أن المريض لا يتحمل عناء النقل.

وفور إعلان وفاته، أوفد رئيس الدولة ثلاثة مكلفين بمهام في الرئاسة لتقديم التعزية نيابة عنه. وحضرت السيدة الأولى، من جهتها، إلى بيت المرحوم لتواسي الأسرة في هذه المناسبة الأليمة، وكانت علامات التأثر بادية عليها.

وعلى صعيد آخر، أمر الرئيس بفتح تحقيق استعجالي غداة حدوث هذه الوفاة التي أقل ما يقال عنها إنها مشبوهة. وهذا ما يفسر تكليف أكثر من خمسة مفوضي شرطة بكشف ملابسات هذه القضية.

بعد التعبير عن العرفان والامتنان تجاه رئيس الدولة، تعالوا بنا الآن لنتحدث عن ذلك التحقيق الذي كان من المنطقي أن يقتصر هدفه على القبض على مرتكب أو مرتكبي هذه الجريمة النكراء أو – على الأقل – تكثيف البحث عنهم.

اعتمادا فيما يبدو على التقارير الأولية الصادرة عن الشرطة وعلى معاينة الطبيب المداوم في المستشفى الوطني، ساد الاعتقاد في البداية أن الأمر يتعلق بحادثة انتحار. وما يزال البعض تساوره الشكوك في هذا الصدد. وسنرى لاحقا أن هذا الاستنتاج المتسرّع لا يقوم على أي أساس.

ولاستجلاء الموضوع، سنستعرض على نحو منهجي أهم مراحل التحقيق المشار إليه آنفا. فبعد انقضاء سنة كاملة على هذه المأساة، لا يزال التحقيق يراوح مكانه. وبالفعل، إذا استثنينا الفورة الحماسية التي ميّزت الأسبوعين الأولين حيث انهمكت الأسرة بكل نشاط في جمع الأدلة واستجلاب الشهود للمثول أمام الشرطة، لم يُقم بعد ذلك بشيء ذي بال، بل لم يحدث شيء على الإطلاق. وعلى مر الزمن، يظهر أن هذه القضية قد أحيطت بهالة من التعتيم. وعندما يوجه السؤال إلى أي مسؤول يبدو عليه الإحراج ويتذرّع بسرّيّة التحقيق ...

أدلة قاطعة لإثبات فرضية الاغتيال

لئن غابت عنا عناصر الأدلة التي بحوزة المحققين، على افتراض وجودها، فإننا نعرف، بالمقابل، العناصر الدامغة والماثلة للعيان في هذه القضية. إنها عناصر في غاية الإفصاح والظهور وتستبعد تماما فرضية الانتحار. كيف ذلك؟ هذا ما سنتناوله بعد حين عند تعرضنا لمختلف مراحل القضية. فلنبدأ بطرح هذا الاحتمال المستبعد: أن يكون الفقيد قد "انتحر". لنفترض ذلك جدلا.

لكن الوقائع في المسرح الذي وُجد فيه الجثمان – كما عُرضت علينا – توحي رغم غرابتها بأن الفقيد بُعث بعد الموت لينتقل بنفسه من مكان إلى آخر ضمن مسار الانتحار المزعوم الذي تم على مراحل. وهذا هو البرهان! أن يكون الفقيد قد طعن نفسه في الأذن بآلة حادة، لكن ذلك لم يمنعه فيما بعد من أن يطلق رصاصة على قَذاله (مؤخرة رأسه).

فكيف نفسر أن تكون الأذن قد طُعنت طعنة شديدة بحيث إن الطبيب المداوم الذي فحص الجثمان يؤكد في تقريره أن أثر الرصاصة موجود في الأذن الدامية، بينما سيأتي التشريح فيا بعد ليفند هذا التأكيد ويوضح أن أثر الرصاصة يقع في مؤخرة الرأس؟

وكيف نتصور أن الفقيد، بعد هذه الطعنة النجلاء في الأذن بآلة حادة وما يتسبب عنها من ألم مُمِض قد وجد القدرة والوعي الكافي لكي يحاول مرة أخرى أن يضع حدا لحياته بإطلاق رصاصة على رأسه؟

أليس من الأسهل أن يجنب نفسه هذه الآلام ويستخدم سلاحه مباشرة ليزهق روحه؟ علما بأنه كان يعاني من تداعيات عملية جراحية لم تلتئم وكان عمره قد تجاوز خمسا وستين سنة. وفضلا عن ذلك، من المرجح أن يكون بعد تلقي الضربة العنيفة التي ربما نفذت إلى الدماغ عبر قناة الأذن قد أغمي عليه أو دخل في غيبوبة. التفسير الوحيد المعقول هو أن تكون الطعنة في الأذن قد تمت على يد الجاني في بداية اعتدائه على الضحية. اللهم إلا إذا افترضنا أن الفقيد قد طعن نفسه في الأذن بعدما أطلق النار، وذلك ليُجهز على نفسه ويقطع كل أمل في البقاء على قيد الحياة ... ولربما اعتقد البعض أن الجرح الغائر في الأذن سببه سقوط الفقيد على آلة حادة. وهذا الاحتمال مستبعد لثلاثة اعتبارات:

قام أخو الفقيد صباح الحادثة ، صحبة شخص آخر، بالتنقيب شبرا شبرا في مسرح الفاجعة وعلى الرصيف والإسفلت فلم يعثرا على أية آلة.

لو فرضنا جدلا أنه سقط على آلة حادة لكان قد عثر عليه مضطجعا على شقه في حين أنه وجد مستلقيا على ظهره في وضع "مريح"... ولكان الدم منتشرا في المكان.

أما الاعتبار الثالث فهو علمي ويتناقض تماما مع هذه الفرضية. ذلك أن قطرات من الدم قد وجدت على طول حافة الإسفلت، وبالتالي بعيدا عن الجثة مما يدل على أن الفقيد قد جرى نقله إلى هذا المكان.

وقد أسرّ أحد أفراد الشرطة إلى قريب للمتوفى أن قطرات الدم على الإسفلت ذات دلالة معبّرة. ثم أضاف: "عندما تسيل القطرات من جسم في حالة وضع على الأرض فإنها تبقى كثيفة ومتماسكة. وعلى العكس، عندما تسيل من الأعلى نحو الأسفل انطلاقا من جسم محمول وتسقط على أرضية صلبة فإنها تتناثر كما هو الحال في هذه القضية".

وهذا يعضّد مرة أخرى الفرضية القائلة بأن الجثمان قد تم نقله عبر عرض الإسفلت في اتجاه مدخل المسجد.

كيف نفسر أن يكون المعني – وهو في حالة موت سريري – بعد أن أطلق الرصاص على قذاله قد وجد مستلقيا على ظهره، لابسا درّاعة نظيفة ومرتبة الأعطاف، ومشبّك الساعدين دون أي سلاح بجانبه؟

ما ذا يعني أن نجد جسما لا تخضبّه الدماء سوى قطرات يسيرة، وكان المنتظر أن يسبح في لجّة من الدماء؟

بم نفسر خلو ثياب الفقيد من الدماء فيما عدا قطرتين أو ثلاث بحجم قطعة نقود؟

كيف نفسر كلام نائب تشيت الذي حمله إلى المستشفى وأقسم أمام عدة شهود أنه لم يغسل مقاعد سيارته لأنها لم تتلطخ بأي قطرة دم؟

لما ذا وجدت قطرات الدم على طول حافة الإسفلت؟ أليس هذا دليلا قاطعا على أن الجسم منقول من مكان آخر؟

كيف نفسر كون المسدس ذي العيار الصغير (كأنه لعبة أطفال) المدعَى أنه سبب الوفاة، لم يعثر عليه – بحسب ثلاثة شهود بينهم بويا أحمد ولد اشريف، نائب تشيت – لم يعثر عليه إلا في قاعة الحالات المستعجلة؟ فهذا السلاح الذي كان مخبّأ بعناية في السروال وسقط عندما رفع الطبيب الذي باشر الفحص إحدى رجلي الفقيد، دائما بحضور البرلماني.

لما ذا جرى طمسٌ مقصود للبصمات التي كانت على هذا المسدس-اللعبة؟ فالبصمات الوحيدة التي وجدت على المسدس هي بصمات نائب تشيت الذي انتبه للأمر فأمسك بالمسدس من أنبوبه. لكن أحد المفوضين المكلفين بالتحقيق قدم بهذا الشأن رواية أقل ما توصف به أنها غريبة. فهو يرى أن البصمات انطمست لأن السلاح تم تغليفه بورقة من مقاس أ4 بدلا من منديل كلينيكس. وهنا يُطرح سؤال: لما ذا انمحت بصمات المتوفى وبقيت بصمات النائب؟ وعلاوة على ذلك، ليس من اللازم أن يكون المرء متخصصا ليدرك أن ورقة من مقاس أ4 أكثر صلابة من منديل كلينيكس وأحرى أن تحفظ البصمات كليا أو جزئيا على الأقل. وبالمقابل، فإن ورق كلينيكس بسبب لينه من شأنه أن يلتصق بالسلاح ويغلفه من جميع جوانبه حتى يمسح كل بصمة عليه عند تناوله بالأيدي. ألا يثير هذا احتمال أن يكون مرتكب أو مرتكبو الجريمة هم من مسحوا البصمات عن قصد؟ ولهذا لم نجد غير بصمات النائب.

لما ذا تم طمر المكان الذي وجد فيه الجثمان أمام المسجد بشحنة من الرمال أفرغتها شاحنة في ظرف ساعتين أو ثلاث من اكتشاف الواقعة؟

لما ذا لم يُفرض حول مسرح الجريمة طوْق أمني – كما يجري دائما – لإتاحة الوقت الكافي للمحققين حتى يتسنى لهم تأدية عملهم؟

لما ذا بقيت العينات المنتقاة بهدف تحليلها في الخارج مخزنة بالمستشفى الوطني حتى تعفنت دون أن تغادر هذه المؤسسة الاستشفائية؟

لما ذا تحدث وزير العدل في مكتبه بحضور أحد إخوة المتوفى وأمام وكيلي الجمهورية (السابق، الخليل، والجديد، محمد ولد بكار) قائلا: "يجري الحديث عن انتحار. ويتعلق الأمر، في أحسن الأحوال، بحادثة قتل، وفي أسوئها، بحادثة اغتيال"؟

لما ذا جزم طبيب أعصاب كان موجودا في المستشفى وشاهد الصورة الملتقطة بالماسح الضوئي (اسكانير) بهذا الاستنتاج دون تردد: "يتعلق الأمر بإعدام"؟

الاغتيال لم يجر أمام المسجد

تظهر التفاصيل الواردة أعلاه بما لا يدع مجالا للريب أن مسألة الانتحار غير واردة إطلاقا. وعندئذ يطرح السؤال التالي نفسه: لما ذا وجد الجثمان (وهو في حالة موت سريري) عند مدخل المسجد؟ من المحتمل جدا، إن لم نقل من المؤكد، أن القاتل أو القتلة قد اغتالوا الفقيد قرب المسجد ونقلوه إلى هذا المكان بالتحديد، أي إلى مدخله. ذلك أن من المستحيل أن يكون الاغتيال قد تم عند مدخل المسجد. لما ذا؟ لسببين اثنين:

السبب الأول هو أن القتلة لم يكن لديهم الوقت لقتله، ووضع جثمانه في الحالة التي وجده عليها الشهودُ، ووضعه مستلقيا على ظهره، مشبّك الساعدين، مرتّب الثياب، وإخفاء سلاحه في ثنايا سرواله ...

السبب الثاني هو أن الطلقة النارية قد سُمعت في نهاية الركعة الثانية من صلاة الصبح التي لا تزيد على ركعتين. وبالتالي كان المصلون على وشك الخروج من المسجد، فضلا عن المسبوقين الذين يمكن أن يُدْلفوا فجأة من الشوارع الضيقة المحيطة بالمسجد في سعيهم إلى إدراك الركعة الأخيرة. يُضاف إلى ذلك أن جزء الإسفلت الواقع أمام المسجد كان مُضاء كرابعة النهار بفعل مصابيح الإضاءة العمومية المتوهّجة.

كل هذا يدل إذن على أن الفقيد قد قتل في مكان آخر ونقل إلى المحل الذي وجد فيه جثمانه. والرصاصة التي أطلقت على مؤخرة رأسه صادرة عن سلاحه أو عن سلاح آخر لكن بعد أن دخل في حالة موت سريري. ويتعلق الأمر، على الأرجح، بعملية تمويه للتضليل والإيهام بأن الأمر يتعلق بحادثة انتحار. وعند الخروج من المسجد سرعان ما وقع الاشتباه بهذا الصدد. ذلك أن العلاقة كانت جلية: إطلاق نار وجثة ملقاة بدون حراك. إنه الطريق السالك نحو إرباك المحققين والتلبيس عليهم.

بيْد أن شهادة حاسمة تم تقديمها للمحققين أنارت على نحو ساطع غموض القضية، وكان من المفترض أن تشكل منعطفا في مسار التحقيق. فقبيْل الفاجعة، كانت زوجة الفقيد تشاهد من النافذة زوجها وهو يتوجه – كالعادة – صوْب المسجد. وقد قامت الشرطة بقياس المسافة ما بين منزل الفقيد (الواقع في منتهى طريق مسدود) وبين المسجد. ولوحظ أن المسافة بينهما اثنان وسبعون (72) مترا.

وبينما كان المؤذن يرفع نداء الإقامة للصلاة، رأت الزوجة بعلها يقف إزاء سيارة مركونة على بعد عشرين مترا من المسجد. وانحنى ليخاطب من بالسيارة في جهة السائق. وفي ظلمة الغلس لم تميز الشخص أو الأشخاص الموجودين في السيارة. إلى هنا انتهت شهادة المرأة التي شرعت حينئذ في أداء صلاتها.

ثمان دقائق لقطع عشرين مترا؟!

علينا الآن أن نفحص بدقة الحيز الزمني الممتد ما بين محادثة الفقيد لمن بالسيارة وسماع صوت الرصاصة عند مدخل المسجد.

فلو أن المعني انتحر لكان الناس المتهيّئين للصلاة قد سمعوا صوت الرصاصة قبل شروع الإمام في الصلاة أو، على الأقل، في بداية الصلاة. ذلك أن الفقيد لم يكن أمامه سوى قطع عشرين مترا ليصل إلى المسجد، أي مسافة يتم قطعها في دقيقة واحدة على أقصى تقدير. والحال أن ذلك لم يقع. فالمصلون داخل المسجد لم يسمعوا إطلاق الرصاصة إلا في نهاية الركعة الثانية.

وبحساب بسيط في متناول الجميع، يمكن أن نعرف بصورة تقريبية الوقت الذي انقضى قبل أن يسمع المصلون طلقة الرصاصة. فالمعروف عن إمام المسجد المذكور ترتيله للقراءة. وبالنسبة لصلاة الصبح في هذا اليوم بالذات قرأ السورتين الأخيرتين من الحزب قبل الأخير من المصحف الشريف الذي يضم ستين حزبا. فقد قرأ في الركعة الأولى سورة البروج وفي الثانية سورة الطارق. فما المدة التي استغرقتها الصلاة تقريبا؟ بعد الإقامة يقضي الإمام حوالي دقيقتين في تنظيم الصفوف، وتستغرق كل ركعة يُقرأ فيها بالسورتين المذكورتين ما بين 3 إلى 4 دقائق. أي ما مجموعه 7 إلى 8 دقائق. فكيف نفسر إذن، مرة أخرى، أن يقضي الفقيد 7 إلى 8 دقائق ليجتاز عشرين مترا؟ التفسير الوحيد المعقول هو أن هذا الوقت ربما تم انتهازه لطعنه بضراوة في الأذن لدرجة أن الطبيب المداوم في المستشفى كتب – خطأ – في تقريره أن أثر الرصاصة لوحظ بالتحديد في الأذن. وبالإمكان تصور بقية السيناريو: اغتيال ثم نقل إلى واجهة المسجد.

وهناك عدة شهادات تتضافر لتعضد هذا السيناريو. فالشهود قد رأوا سيارة من نوع آفنسيس رمادية اللون وخالية من لوحة الترقيم، رأوها تمر من أمام المسجد في نفس الوقت. وقد تم إبلاغ الشرطة بهذه الشهادات.

وصفوة القول إن جميع الوقائع والأدلة المسوقة آنفا تنفي تماما فرضية الانتحار. اللهم إلا إذا افترضنا أن الفقيد بعد أن سدد لنفسه طعنة في الأذن ارتأى أن ذلك غير كاف في إزهاق روحه فأخذ مسدسه وأطلق رصاصة في مؤخرة رأسه. ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إنه – وهو في حالة موت سريري – وجد القوة الكافية وصحوة الوعي اللتين تمكنانه من الاستلقاء على ظهره، وتشبيك ساعديه، وتخبئة سلاحه في ثنايا سرواله. ولا ننسى أنه حرص على ضبط تدفق دمه حتى لا تسيل منه في عين المكان سوى قطرات يسيرة. أي هذيان هذا! لا يعدو مثل هذا الاحتمال أن يكون ضربا من الخيال وشطح الأوهام.

أربع عشرة حالة من هذا النمط من الانتحار تم إحصاؤها في العالم

لنتصور ولو لحظة أن شخصا ما يريد أن ينتحر بإطلاق الرصاص. أسهل طريقة لذلك وأكثرها استعمالا هي أن يطلق الرصاصة على صدغه أو على جبهته. لكن الفقيد على ما يبدو اختار المكان الذي يصعب الوصول إليه، ألا وهو القذال (مؤخرة الرأس).

ما لم يكن المرء بهلوانا ذا مرونة استثنائية، فإن هذا التصرف ليس متاحا للإنسان العادي. فلنتصور صعوبة الالتواء والتثني: إرجاع اليد خلف الظهر، ثم تأخيرها بقدر طول المسدس ورفعها نحو الأعلى باتجاه مؤخرة الرأس. وعن هذا الموضوع: أسرّ أحد المحققين للعقيد دحان ولد أحمد محمود أنه قام ببحث على شبكة الإنترنت ولم يجد سوى 14 حالة من هذا النمط من الانتحار تم إحصاؤها في العالم.

فكيف لرجل تجاوز الخامسة والستين من العمر ويعاني من آثار عملية جراحية لم تندمل، أن يحقق هذه المهارة الفائقة؟

وختاما لهذا المبحث نشير إلى أن المنتحر، وبالأخص عن طريق إطلاق الرصاص، لا يمكن أن يكون إلا في ثلاث وضعيات: قائما، أو قاعدا، أو مضطجعا. وفي الحالات الثلاث المذكورة يسقط المسدس تلقائيا من اليد القابضة عليه. فكيف نفسر، مرة أخرى، عدم العثور على السلاح الذي أطلقت به النار – حسب هذا الزعم – إلا في المستشفى. وكان السلاح مخبّأ بعناية في سروال المتوفى.

وهناك عنصر مثير آخر يعزز مجمل الوقائع والأدلة التي تثبت فرضية الاغتيال بشكل جازم لا مراء فيه.

ففي الأيام التي سبقت الفاجعة، كانت سيارة مشبوهة تأتي مرارا مطفأة الأضواء في وقت مبكر من الليل وتتوقف في ساحة صغيرة تقع أمام منزل المتوفى. وهو ما أثار خوف الزوجة (زوجة الفقيد) التي طالما راقبت المشهد من الطابق العلوي. وفضلا عن ذلك، أبصرت إحدى القاطنات في المنزل (وهي ابنة أخت للفقيد تمتاز بالشجاعة) رجلا يتسكع قرب باب الدار. فزجرته قائلة: "ما الذي تفعل هنا؟". فنكص الرجل على عقبيْه مشيحا بوجهه ومحاولا فيما يبدو إخفاء ملامحه. ثم أجاب موليا ظهره دائما: "أنا أسكن قبالتكم في الشقق المفروشة للوزير السابق با مامادو راسين". فردت المرأة قائلة: "هذا غير صحيح، لأن الشقق المذكورة يسكنها الآن أجانب من السنغال ...".

ومنذ ذلك الحين استبد الخوف بأهل الدار.

أحاط أخ للفقيد وزيرَ العدل علما بالأمر، فاتصل أمامه بالمدير العام للأمن الوطني. وبعد فترة وجيزة، حضر مفوضة شرطة تفرغ زينه 2 إلى المنزل لاستطلاع جلية الوقائع. ثم قال: "سأقيم هذه الليلة وتدا". وفهم أهل الدار أن كلمة "وتد" تعني في مصطلح الشرطة "نقطة حراسة".

ثلاث طرق ممكنة لاستجلاء هذه القضية

قبل اختتام السرد المتعلق بالانتحار المزعوم، نسوق بعجالة الطرق الثلاث التي يمكن انتهاجها لفك لغز القضية. وكثيرا ما يقال إن طرح المشكلة بوضوح يمثل نصف الحل. ويقتضي المنطق السليم أن نسلك طريقة استبعاد الاحتمالات المستحيلة.

وهكذا ينبغي أن نلغي فرضيات العمل غير المعقولة بدليل الحجج التي تثبت ذلك.

وفي حالتنا الراهنة هناك ثلاث طرق محتملة: الانتحار، وجريمة السرقة، والاغتيال. وقد رأينا من قبل استحالة احتمال الانتحار. ومثله جريمة السرقة لأنها غير واردة. لما ذا؟ لأن الفقيد لم يكن يحمل مالا. وبالمقابل، كان بمقدور الجاني أن يسلبه ساعته، أو أغلى من ذلك مسدسه الذي قد يصل ثمنه في أرخص تقدير إلى 20 أو 30 ألف أوقية. ويكون ذلك مكسبا بدل قتل شخص مجانا والانسحاب صفر اليدين. فلا يبقى إذن سوى طريق الاغتيال. وهنا تكمن المشكلة كل المشكلة.

العقيد دحان ولد أحمد محمود، وهو رجل سلاح، ومن أوائل المصلين الذين اكتشفوا الجثة، صرح لأصدقاء من بينهم مهندس معادن متقاعد ومسؤول سام سابق في شركة اسنيم أنه هو شخصيا مقتنع بثلاثة أشياء:

أن المعني لم ينتحر؛

أنه لم يقتل أمام المسجد؛

أن مسدسه ليس السبب في مقتله.

لا يمكن تلخيص الوضع بأفضل من هذا.

وكان دحان قد أفضى بهذا الكلام لأحد أقارب الفقيد داخل المسجد إبّان الاجتماع لصلاة التراويح خلال شهر رمضان.

وأكد العقيد دحان أن المسدس ليس سبب الوفاة. وهو تأكيد لا ينبغي الاستهانة به. لذا يجدر أن نسوق ملاحظة بشأن هذا المسدس. يتعلق الأمر بنوع من المسدسات الصغيرة التي تشبه اللعب ومزود برصاصات على شكل كريات معدنية صغيرة مغلفة بالمطاط. وهو تقريبا نسخة مصغّرة للبندقية ذات الحبات الرصاصية والتي يلعب بها الأطفال في رماية الهدف. وكما أشار العقيد دحان من المستحيل أن يكون السبب في الوفاة. وربما تم استخدامه للتعمية والتمويه. ذلك أن من غير المتصوّر إطلاقا أن تستطيع كرة معدنية اختراق دماغ المتوفى في موضعين منفصلين تماما على النحو الذي تظهره بوضوح صور الماسح الضوئي (اسكانير).

كما أن ضابطا سابقا في المدفعية – كان موجودا هو الآخر في المسجد ومستعد للإدلاء بشهادته – أكد أن الطلقة التي سمعها لم تصدر عن المسدس الصغير الذي كان بحوزة الفقيد.

وهناك شاهد آخر - مستعد أيضا للإدلاء بشهادته – كان خارجا من مسجد آخر (مسجد ولد محمدن) على بعد مئات من الأمتار، أكد أنه سمع صوت الرصاصة. وأي خبير في القذائف سيؤكد أن رصاصة المسدس لا يمكن سماعها من هذه المسافة. وهذا ما ينفي مرة أخرى أن تكون الطلقة لها أية صلة باستخدام المسدس-اللعبة.

وشاهد آخر هو بويا أحمد ولد اشريف الذي كان من أوائل المصلين الذين اكتشفوا الجثمان وحمله إلى المستشفى، صرح دون مواربة أمام الشهود بقوله: "هذا الرجل تم اغتياله! ومن الظلم المحرم وصْمه بعار الانتحار. وأنا شخصيا سأصْدع بذلك على رؤوس الأشهاد مهما كانت العواقب".

وأخيرا، يثور سؤال بسيط: لما ذا لم ينتحر المعني في منزله؟ لما ذا توضأ ثم انطلق إلى صلاة الصبح بنية صيام ذلك اليوم، ثم يفجر رأسه على بعد أمتار من أقدس مكان في المنطقة أي قرب بيت من بيوت الله؟

الصحة الذهنية للمتوفى

تقوم نظرية الانتحار على ما يُعتقد - خطأ – أنه عنصران متطابقان. ويسود الظن أن هذين العنصرين لازمان وكافيان لاستنتاج وقوع الانتحار. ونقصد هنا استخدام المسدس والصحة الذهنية للمتوفى.

بخصوص الصحة الذهنية للفقيد، لم يحدث قط أن عانى من أي اضطراب نفسي ولم يُساور عائلته، ولا أصدقاءه، ولا محيطه المهني أي شكوك بهذا الصدد. وبهذا نجزم جزما قاطعا.

لكن بما أن المسألة يطرحها البعض وتشكل بالنسبة له عنصرا مرجحا لفرضية الانتحار فلا مانع من التطرق إليها. كان المتوفى قد خضع في تونس لعملية جراحية هامة لها علاقة بفتق. وبعد عودته من تونس لاحظ أن آثار التدخل الجراحي لم تندمل وأنها – على العكس من ذلك – أنهكته على خلفية حالة من الإصابة بما يسبق السكري. وكان يعاني من ذلك كثيرا. لم يكن ينام سوى ساعتين أو ثلاث في الليل. وللإخلاد إلى النوم العميق، استمر، كما كان يفعل منذ خمس وثلاثين سنة أي منذ أن كان طالبا بفرنسا، في تناول بعض المهدئات. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن ما يكافحه ليس ضغطا نفسيا وإنما إرهاقا جسديا. وحيث إنه لاحظ أن الجرعة التي يتناولها عادة لم يكن لها كبير تأثير فقد كان يزور أحيانا الدكتور جا ليستشيره في تعديل الجرعة أو لتبديل الدواء.

وفيما يبدو أن هذه الزيارات النادرة قد اتُّخِذت ذريعة لتحويل الاغتيال إلى حادثة انتحار؛ وهنا يجتمع العنصران المنوّه بهما أعلاه: رصاصة المسدس الصغير وزيارة الدكتور جا. فما ذا نبغي بعد ذلك؟ لا يعدو الأمر أن يكون عملا جنونيا.

ذلك أن زيارة الدكتور جا مرتبطة في أذهان الموريتانيين غالبا، إن لم يكن دائما، بحالات الجنون.

لكن ما يغيب عن كثيرين هو أن الفقيد ينتمي إلى المدرسة القديمة التي يصر أصحابها على ألا يفحصهم غير الممارسين المشهود لهم بالخبرة والتجربة. ولا يثقون في الشباب حديثي العهد بالتطبيب.

في مواجهة مشاغل الحياة، يتناول العديد من الموريتانيين يوميا مهدئات مضادة للاكتئاب أو للقلق. وفي فرنسا تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن نسبة من يتناولون هذا النوع من الأدوية تتجاوز 45% من السكان. ومعنى ذلك أن تناول المهدئات لا علاقة له بالجنون.

فالقدرات الذهنية والعقلية للفقيد وملكاته الإدراكية كانت على أحسن ما يرام. كان في غاية الضبط والتمييز.

ولا أدل على ذلك من تصرفاته اليومية بشهادة أسرته، وطلابه، وزملائه في العمل، وكل من يتعامل معهم. ففي اليوم السابق لاغتياله لم يكتف فحسب بأن يلقي درسه في كلية الحقوق بالطريقة الاعتيادية وإنما أضاف إليه درسا آخر لاستدراك حصة متأخرة.

لقد كان من بين ثلة قليلة من الأساتذة حريصا على إكمال البرنامج ولا يكاد يتغيب عن أي حصة. ومن شأن التحقيق الموضوعي أن يعمل على تقاطع المعطيات الآنفة الذكر ومقارنتها نقطة بنقطة.

كان قبيل اغتياله قد قبل – وهو الأستاذ المحنك – تولي مسؤولية طالما رفضها، ألا وهي الإشراف على السلك الثالث (الماجستير) في تخصص الحقوق. وفي عشية اغتياله كان برنامجه مشحونا: مواعيد مع الأصدقاء، لقاءات مع أصحاب المكتبات ... كل هذا يمكن التأكد منه ومقابلة الأطراف المعنية به. وبهذا يتضح أن الانتحار لم يكن على جدول أعماله.

في أعقاب هذا التمهيد الطويل وما تخلله من استطرادات توشك أن تكون من قبيل الإطناب، سنستعرض فيما يلي تسلسل المراحل التي مرت بها هذه القضية الغامضة.

محضر الشرطة

تم الاستماع بصفة شاهد إلى زوجة المتوفى. وهذا هو ملخص سردها للوقائع: "كنت في مواجهة أربعة أو خمسة مفوضي شرطة يتعاقبون على طرح الأسئلة. وقد تزايدت حدة الاستجواب بالتدريج. وسرعان ما علت نبرته. كان الانطباع الذي تولّد لدي هو أن هناك رغبة في "البرهنة" على أن الأمر يتعلق بانتحار وطي الملف على جناح السرعة. وفي ردّي على كل الأسئلة الرامية إلى تأكيد فرضية الانتحار كنت أجيب بالنفي. وجرى الاستجواب على خلفية الضغوط والتهديد: "اعترفي أن زوجك كان يتعاطى المخدرات؛ وأنه انتحر، وعندئذ سنطلق سراحك فورا ونبقي كل ذلك طي الكتمان". وكانت أجوبتي تُقاطع بالقول: "أنت تكذبين!". وبعد خمس ساعات من استجواب يتسم بطابع الاتهام عُرضت علي ورقة للتوقيع عليها. فرددت بأني لا أستطيع توقيع ورقة أجهل محتواها. فقيل لي إن الأمر يتعلق بمسودة وسيتم استدعائي لاحقا لتوقيع النسخة النهائية. وهو ما لم يحصل قط. وأنا أؤكد أنني أجهل تماما المضمون الذي أرغمتُ على التوقيع عليه". ولعل من نافلة القول التذكير بأن هذا المحضر الذي أعد – فيما يبدو – تحت وطأة التهديد والإكراه ليست له أية قيمة قانونية.

مسرح الجريمة

وضع الجثمان بحسب تصريح الشهود: كان المتوفى مستلقيا على ظهره، مرتّب الثياب، ومشبّك الساعدين، ولم يكن على أرضية المكان أي أثر للدماء. وللمزيد من التفاصيل، يمكن الرجوع إلى الشروح الواردة أعلاه.

تم نقل الفقيد إلى الحالات المستعجلة بعناية نائب تشيت والوالي السابق لمدينة نواكشوط محمد الأمين ولد مولاي الزين.

وعند وصوله إلى الحالات المستعجلة وضع على سرير متنقل وأدخل في غرفة الفحوص. وفي أثناء الفحص، رفع الطبيب إحدى الرجلين فسقط مسدس صغير كان مخبّأ في سرواله.

كانت البصمات قد طُمست تماما من المسدس قبل الوصول إلى المستشفى. فالبصمات الوحيدة التي وجدت على المسدس هي بصمات نائب تشيت الذي انتبه للأمر فأمسك بالمسدس من أنبوبه.

وقد أورد الطبيب المداوم في تقريره – وهذا ربما دفع البعض إلى الظن بأن القضية حادثة انتحار – معلومات لا تخلو من غرابة: فهو يستنتج أن الرصاصة (أو على الأصح الكريّة المعدنية) قد نفذت إلى الدماغ عن طريق الأذن التي كانت دامية. ولم ينتبه إلى تقليب الجثمان ليكتشف أن أثر الرصاصة ظاهر على مؤخرة الرأس، وهو ما سيتبيّن من التشريح فيما بعد. أما الدم الموجود على الأذن فهو عائد إلى طعنة عنيفة بآلة حادة.

وفي هذا التقرير يؤكد الطبيب المداوم كذلك أن المتوفى كان يستعمل عقاقير للتنشيط النفسي.

والواقع أن الألفاظ لها دلالتها، فعندما يتم الحديث عن "عقاقير للتنشيط النفسي" فالمقصود هو المخدرات (الكوكايين، الهيروين) أو الكحول المركّز الذي يُفقد الشخصَ وعيَه. وهذه التأكيدات لا أساس لها البتة لسببيْن: فتأكيد هذا الزعم يتطلب تحاليل مخبرية معمّقة لم يكن بوسع الطبيب في وضعه ذاك أن يقوم بها ولم يكن لديه لا الوقت ولا الوسائل التي تمكنه من إثبات استنتاجه المتسرّع والخاطئ.

ولا يفوتنا هنا أن نشير إلى التشابه الغريب فيما بين تقرير الطبيب المداوم وبين محضر الشرطة. فالوثيقتان تميلان إلى ترسيخ فكرة الانتحار دون تروٍّ ولا أناةٍ.

فالزعم بإطلاق رصاصة على الأذن واستعمال عقاقير للتنشيط النفسي يمثلان خطيئتين ارتكبهما هذا الطبيب مما أدّى إلى الإيهام بالانتحار، وهو ما سيدحضه تشريح الجثمان إذا لم تكن نتائجه قد تم "التلاعب" بها. ومهما يكن فإن أطباء قد حضروا التشريح وهم مستعدون للإدلاء بشهادتهم.

التشريح

جرى التشريح بحضور طبيب من أسرة المتوفى. وقد صرح له الطبيب الشرعي بأن الأمر يتعلق بجريمة قتل. واطلع طبيب آخر من الأسرة على تقرير الطبيب الشرعي الذي يؤكد الطابع الإجرامي للحادثة. وهذان الطبيبان على استعداد كذلك لتقديم شهادتهما. وكان طبيب ثالث، أخصائي في الأعصاب، حاضرا في المستشفى وعندما رأى صور الماسح الضوئي (اسكانير) استنتج دون تردد أن الأمر يتعلق بحادثة قتل.

هل جرى "تعديل" التقرير الخاص بتشريح الجثة؟ الله أعلم، والشرطة على علم بذلك.

الشهود

بعض الشهود لم يتم الاستماع إليهم. وبعضهم نكل عن شهادته (رجع عنها). ونورد فيما يلي مثاليْن على ذلك. وزير داخلية سابق أفشى سرا غريبا لجماعة المسجد في الليلة التي سبقت الاغتيال. فينما هو يخطو للدخول إلى بيت العبادة قال إنه رأى شخصين أو ثلاثة يقفون في معزل عن مدخل المسجد. وسمع أحدهم يقول: "هذا ليس هو". ولأول وهلة لم يعر اهتماما لهذا الكلام. لكن بعد الفاجعة في الليلة الموالية لاحظ الصلة بين الحادثتين.

وهذه الشهادة تستمد مصداقيتها من التشابه الكبير فيما بين المتوفى والوزير السابق: فكلاهما تقريبا بنفس القامة، ووَخَطهما الشيب، ويميلان إلى البياض مع سمرة خفيفة، وكلاهما يرتدي نظارات. وبعد عدة أيام من وقوع الجريمة، أنكر الوزير السابق – عندما سألته الشرطة - أن يكون قد أدلى بهذا الكلام.

وشاهد آخر – طبيب أخصائي في الأعصاب – قال لأخي الفقيد إنه رأى "اسكانير" وإنه لا يخالجه شك في أن الفقيد قد تم اغتياله. والعبارة التي استخدمها هي بالتحديد: "قد تم إعدامه". ثم استفاض في شروح فنية لتعضيد تأكيداته. فطلب منه أخو الفقيد أن يعطيه هذه التفاصيل كتابيا. وبعد وقت قصير، اتصل به هذا الطبيبُ هاتفيا ليقول له إنه استشار قريبا له في وزارة العدل فنصحه بألا يقحم نفسه في هذه القضية لا سيما وأنه ليس من بين الأطباء المعنيين بها. وهذا الشاهد راوغ كثيرا المحققين لتفادي المثول أمامهم مدّعيا في كل مرة أنه على أهْبَة الدخول في غرفة العمليات. واضطر في آخر المطاف إلى تلبية استدعاء الشرطة ونفى جملة وتفصيلا كل ما قاله من قبل.

وهناك شاهد أساسي لم تستمع إليه الشرطة. والغريب أن الشرطة ادعت أنها لم تعثر عليه. يتعلق الأمر بالشيخ ولد باها المحامي والسفير السابق الذي أكد للأستاذ يربَ ولد أحمد صالح وفيما بعد لأحد إخوة الفقيد أنه قبل أسبوعين من وفاة هذا الأخير التقاه عند شبابيك مصالح السفارة الفرنسية المكلفة بإعطاء التأشرة، وأكد الشيخ ولد باها أنه سمع المرحوم يقول لوكيل التأشرة أن يسرع في إعطائه إياها لأن لديه – كما قال – أمرا بالتنفيذ (exequatur) في فرنسا. والأكزاكواتور – للتذكير – هو حكم قضائي صادر في بلد ما على أن ينفذ في بلد آخر، هو في هذه الحالة فرنسا، طبقا لمقتضيات التعاون القضائي الدولي.

وقد رفعت أسرة الفقيد التماسا إلى وزير العدل من أجل الحصول على معلومات بشأن هذا الأمر بالتنفيذ. وبموازاة ذلك وجهت طلبا إلى وزارة الشؤون الخارجية للتدخل لدى سفارة فرنسا قصْد الحصول على معلومات أوفي بخصوص التأشرة المطلوبة. وبعد عدة أشهر، من الواضح أن أي شيء من ذلك لم يقع. والحقيقة أن هذا الأمر بالتنفيذ قد يشكل دافعا أكيدا لارتكاب الاغتيال.

وهناك شهادة هامة أدلت بها منت أحمد لولي (ابنة عم الرئيس السابق للدولة) والموظفة في الإدارة العامة للأمن الوطني، ولم تنل هذه الشهادة حظها من التحرّيات الجديرة بهذه الصفة. فالمعنية تحدثت عن شابين رأيا شخصين مشبوهين داخل سيارة مركونة غير بعيد من مسرح الجريمة.

وقد أبلغت أسرة الفقيد الشرطة بهذه الشهادة. وعلى ضوء المعلومات التي قدمتها الشرطية (منت أحمد لولي) أعلن المحققون أنهم التقوا والدة أحد الشابين فأعطتهما رقما غير صحيح في الخارج حيث إن الشابين قد سافر أحدهما إلى آنغولا والأخر إلى الكونغو.

ومع ذلك، فالوصف الذي أعطاه أحد الشابين لسائق السيارة المشبوهة في غاية الوضوح: لون داكن، شارب ولحية على شكل صفر، زائدة على الوجه (بثرة)، في حوالي الأربعين من العمر، ملامح متجهّمة...

وتتقاطع هذه الشهادة مع شهادتين أخريين. إنهما شهادتا شخصين لقيا هما أيضا صاحبَ الوصف نفسه في المستشفى. وقد ذكرا الأوصاف ذاتها لكنهما رأياه في وضع الوقوف. وهو أقرب إلى قصر القامة. وكان يلبس بذلة بيضاء ربما تفاديا للفت الانتباه.

الشاهد الأول عضو من الأسرة - وهو نفسه طبيب - صرح بأن زميله المداوم أخبره بأن رجلا يحمل المواصفات عينها أتاه فور وصول الجثمان وأبلغه بأنه قريب للفقيد الذي كان مع الأسف – حسب قوله - يتعاطى المخدرات وخضع لعملية في تونس، وإنه مجنون وقد انتحر. فأجاب عضو الأسرة بأن هذه الأوصاف لا تنطبق على أي من أقارب الفقيد وأن أيا منهم لن يفتري عليه بمثل الافتراء.

ويرى البعض أن الشخص المذكور قد أتي للاستطلاع وللتأكد من وفاة الضحية.

أما الشاهد الثاني فهو مريم بنت حمدان زوجة ابن أخت الفقيد. فقد تواجهت - صحبة والدتها - مع الشخص نفسه في سلم المستشفي وهو يهبط الدرجات في الاتجاه المعاكس مهرولا نحو بوابة الخروج. وكاد يصطدم بهما. وقد وصفتاه بالأوصاف ذاتها بما يتطابق مع الشهادات الأخرى. وحدثهما عن المتوفى بالألفاظ التي ساقها الطبيب المداوم. فردت عليه المرأة الشابة قائلة: "أنت تكذب!". وهي – كما نعلم – من أعضاء الأسرة. فما كان من الرجل إلا أن ولاّهما ظهره واختفى عن الأنظار.

وفيما بعد أدلت مريم بشهادتها للشرطة.

وتجدر الإشارة إلى أن أي مذكرة بحث عن المشتبه به لم تصدر – حسب علمنا – عن الشرطة. ومع ذلك فقد اجتمعت عناصر الصورة النموذجية التي تساعد في القبض عليه.

وعلى صعيد آخر، لا بد من التنبيه إلى أن الفقيد كان يوم وفاته على موعد مع أخته محجوبة لإيداع مجموعة من كتبه لدى عدة مكتبات في العاصمة. وكان قد اتفق مع صديقه محمد ولد محمد حرمه على أن يؤديا زيارة في المساء لقريب وزميل دراسة قديم بالكلية هو موسى ولد الشيخ سيديا. ومن السهل مقارنة كل هذه المعطيات والتحقق منها.

من هو الرجل الذي قتلوه؟

توفي الفقيد فجر الجمعة وهو صائم ومتوجه إلى المسجد كَدَأْبه. وكان في الأيام السابقة قد أكمل إجراءات الذهاب إلى الحج رفقة زوجته. وستُرجع وكالة السفر قيمة التذاكر لزوجته فيما بعد.

كان الفقيد يعيش حياة زهد يصل إلى حد التقشف. فهو عَزوف عن الترف والأبّهة ولين العيش. إنه رجل من القلة التي لم تسْتهوها حمّى الاستهلاك المادي، ولم ينغمس في تيارها الجارف، وظل بمنأى عن إغراءات الرشى والشبهات. فكان يحيا على الرغم من منزلته الاجتماعية كأي مواطن عادي. فلم يكن يحمل هاتفا نقالا، وكان يلبس دائما قماش البركال، ويتسوّق بنفسه، ويعين خدم المنزل في أعمالهم.

وهو رجل فذّ مثالي من حيث تربيته، وتقواه، وورعه، ونزاهته، واستقامته، وخصاله الخلقية التي عزَّ نظيرها.

رجل أظهر تأبينه والشهادات المعلنة بعد وفاته الأعمالَ الخيرية الجسام التي كان يقوم بها في الخفاء دون مراءاة ولا تسْميع.

وإدراكا منه لأن "الدار الآخرة لهي الحيوان" وأن الحياة الحقيقية هي ما بعد القبر، فقد صدّ عن ملذات الحياة الفانية. وظل إلى أن لبّى نداء ربه العلي الكريم وهو لا يعزب عن باله الهدف الذي من أجله خُلق. فكان جل وقته مخصصا للمسجد، وللكتابة، ولتدريس الطلبة في الكلية.

كانت حياته منظمة. فخرَجاته تستأثر بها صلة الأرحام. وكان أصدقاؤه يعدّون على أصابع اليد الواحدة. فقد كان يمقت الظهور وتصدّر المجالس. ولم يكن له من هَوَس سوى حب إتقان العمل.

ولطالما عرفته ظلمة الليل البهيم وهو يجوس الأزقة في الأحياء الشعبية حاملا الزاد والثياب للمعوزين وذوي الحاجة.

وسينبئ مؤذن المسجد (يوسف) بما كانت أسرته نفسها تجهله، وهو إسهامه المالي المعتبر – والمتكتّم عليه - في بناء وتجهيز المسجد الذي عثر على جثمانه أمامه.

أيُعقل أن يُقْدِم على الانتحار رجلٌ مؤمن يعرف أن عقوبة هذا الجرم نار حامية؟ كلا وألف لا.

الأسرة

في مختتم هذا العرض يجدر أن نبرز ملاحظة أخيرة. فعلى مدى شهور طويلة مضنية من الصمت المطبق، تبيّن أن التحقيق – إن وُجد – ما يزال يراوح مكانه.

إن الفقيد ينتمي إلى قبيلتين قويتين تضمان العديد من الوجهاء، والمثقفين، والأطر السامين، ولن ترضيا إطلاقا بإغلاق الملف دون متابعة. هذا فضلا عن لفيف من المحامين والجامعيين وأفواج من الطلبة والناشطين المنضوين في المنظمات غير الحكومية، وكلهم متلهّفون إلى كشف غموض هذا الملف. وتسعى الأسرة – حرصا منها على السكينة العامة – إلى كبح جماح المندفعين وحثهم على التأنّي.

ولم يبق لها إلا التوجه مباشرة إلى فخامة رئيس الجمهورية لتلتمس منه إصدار الأوامر السامية باستئناف التحقيق من جديد انطلاقا من الصفر، على أن يكون تحقيقا جدّيا لا يُقصد منه – بطبيعة الحال – سوى إظهار الحقيقة.

نواكشوط، بتاريخ 29-04-02018

عن الأسرة، إخوة المتوفى:

موسى حرمة الله، أستاذ جامعي، حائز على جائزة شنقيط؛

محمد الخامس سيدي عبد الله، مستشار وزير الاقتصاد والمالية، ومستشار رئيس حزب الاتحاد من أجل الجمهورية.