كل شيء فى المركز الوطني لأمراض القلب اليوم حزين متشح بالسواد...
كل شيء تغطيه قتامة حزن رهيبة، البشر، والحجر، والشجر..
هذا أسود يوم في تاريخ مركزنا، وقد فقدنا فيه واسطة العقد، وسقطت فيه نجمتنا بينما كانت تمارس هوايتها فى الصعود والارتقاء طبا وأخلاقا وسموا...
في النواصي والردهات، على الأسرة، وعبر الحيطان، في ملفات المرضى، وعنابر الحجز الطبي، لا شيء سوى دموع حراء، وبصمات لا تغيب، لطبيبة كانت هنا روحا وجسدا وأخلاقا وتواضعا ومهنية.
ابتسامتها العريضة التي لا تصدأ أبدا تطالعنا هنا في الرفوف والممرات، في المستعجلات والإنعاش، في الحجز، في قاعة الاجتماعات، في الاستشارات الخارجية، في مقهانا الصغير، هنا وهناك في كل مكان ينتصب طيفها الوادع الباسم.
هنا مبضعها، هنا مشرطها، هنا جهاز قياس الضغط، ودفتر الوصفات ،وسجلات المرضى، وملفات المراجعين، وسرير الفحص، ومقياس الحرارة.
هنا زرعت أملا، هنا كافحت ألما ،هنا فحصت ملف مريض، وهناك أسندت ضعيفا، وهنا وهناك ،هي تتجلى بسترتها البيضاء كقلبها، النظيفة كسريرتها، الصافية كحبها لوطنها وأهلها ومهنتها.
دكتورة آمنة منت بيجل لم تغب ولن تغيب، هي هنا بحجم هذا الحزن الذي يرتسم على ملامحنا البائسة.
مرعوبون نحن وتحت الصدمة، نرتجف مسلمين بقضاء الله ،لأننا ندرك أن الله أرحم بآمنة منا، ولأننا نعرف أن ما يفعل الجليل هو الجميل.
اليوم وحدتنا الدموع ،ولحمنا الحزن، وصهرنا هول الفجيعة.
المدير أحمد، والمديرة بارى، والمدير مختر، والمحاسب الداه، والإداري صيام، والمسير شيخنا، والمراقبون صار، مختار، وأحمد، و سيدى محمد ،ومحمد محمود ،وأحمد فال، وأنا ،والممرضون، كل الممرضين،و موظفوا مكاتب الدخول و الاستقبال و"أكنام" وعمال النظافة والبوابون كلنا وبدون استثناء نعيش صدمة حقيقية، نبكى بحرقة حبيبة غابت، وتركتنا للفراق نتشظى حسرة وألما.
وتلك يقينا دموع خديجة وعائشة وآمنة وتسلم وألبيكة وآسية
وفى وحدة الشيخ زايد التابعة للمركز يتلون كل شيئ بسواد الحزن وتنتحر اللحظات مستسلمة لرهبة دموع الفراق
أما هنا فعاصمة الحزن، وشواطئ الأسى، حيث لا مراكب ستعود ،ولا موج سيهدأ.
هؤلاء زملاء آمنة، وقد أخرس رحيلها ألسنتهم، ورسم على وجوههم كل ألوان الفجيعة.
مريم، وفرحة ،وموسى، وزينى، والحاج احمد ،وعزيز، ومحمد الأمين، وأفاه، و يحي.
وللطاقم الآخر وجوه ظللها الأسى وغمرتها الدموع عبد الرحمن، وبونن، وجدو، وأغربط، ودياكانا ،وهولي، وخالد، وكامرا.
يلبس المركز كله عباءة حزن، نسجت بالدموع كل خيوطها السود.
كل زواياه حزينة، كل الأسرة تنتحب بصمت، مع الملفات والدفاتر والأجهزة.
من سيجيب المريض العائد على ميعاد ليسأل ببراءة عن التي كتبت على جسده سطور الشفاء،
عن التي انتشلته من أنياب المرض والألم، عن التي تستقبله كما تودعه مبتسمة بحنان يذكره يقينا بأمه وإن طال عهده بها ،عن التي ستسأله بهدوء وستخفف عنه، وستمسح عن وجهه ظلالة الكآبة، عن التي ستتحدث معه إن شاء بحسانية جنوبية جميلة الإيقاع، نقية نقاء روابي" مسين"، صافية صفاء نهر الجنوب، وإن شاء بولفية أليفة لها وقع حميمي على نفس سامعها، وإن كان من أهل اللغة الفرنسية سمع منها الأكثر جزالة وأناقة وقوة.
من سيجيبه عندما يسال "أين الدكتورة منت بيجل"..؟!!
لن يجيبه سوى صمت جدران مركز القلب التي لو كتب لها التحرك والخروج من جماديتها، لتركت العنان أولا لدموع بكاء على التي كانت هنا كنز أخلاق وتواضع وخبرة وصدق ومهنية..!!
لم تودعنا دكتورتنا الراحلة ،فنعومتها وطيبها وأخلاقها الطبية تجعلها تقدر حجم ضعفنا عن مواجهة لحظة الوداع الأخير ،لذلك رحلت جسدا ،لكنها بقيت بيننا معنا حوالينا أبدا روحا وقيما وابتسامة لا تغيب.
اللهم اغفر لآمنة منت بيجل وارحمها وتجاوز عنها ونقها من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس